مفارقة عجيبة نشهدها هذه الأيام في الإمارات، ففي الوقت الذي تزداد فيه ثروة البلاد وتشهد جميع إمارات الدولة استثمارات وصفقات بمليارات الدولارات، نسمع أصوات مواطنين يطلبون المساعدة، ونرى عدد المحتاجين من المواطنين يزداد. ولو رجعنا بذاكرتنا قليلاً إلى الوراء قبل عشر سنوات أو أقل سنكتشف أن أمور المواطنين كانت أفضل بكثير مما هي عليه اليوم–رغم أن سعر النفط كان أقل، والاستثمارات لم تكن بهذا الحجم- فلم يكن هناك من المواطنين محتاج، أو على الأقل لم نكن نسمع صوتهم في العلن، وذلك إما لأنهم كانوا متعففين، أو أنهم كانوا يجدون من يساعدهم في الخفاء، وفي كلا الحالتين لم تكن المشكلة كبيرة وعددهم كان محدوداً جداً. مؤخراً بدأنا نرى تزايداً واضحاً في أعداد المواطنين المحتاجين "وهم يظهرون أكثر في شهر رمضان"، فبعد أن كانوا يقفون في طوابير طويلة أمام دواوين الحكام صاروا اليوم يتكلمون في العلن من خلال وسائل الإعلام المختلفة في البرامج الإذاعية والتلفزيونية ويسمع العالم بأسره صوت المواطن الإماراتي وهو يستجدي "على الهواء مباشرة"!.. وغريب جداً أن يطلب مواطن من الإمارات من يساعده كي يوفر احتياجات أبنائه للمدارس. وكم هو صعب أن نسمع صوت أم إماراتية تطلب من الجمعيات الخيرية من خلال الإذاعة أن تساعدها لكسوة أطفالها في العيد. فهذا يعني أن هناك أسراً لا تمتلك إلا قوت يومها، ولا تملك عدة مئات من الدراهم كي تصرفها على أطفالها في المناسبات! هذا وضع جديد، وقبل أن نطالب بأي دعم، أو أية حلول يجب أن نكون منصفين، فالدولة قدمت الكثير لأبنائها المواطنين على مدى سنوات طويلة وما تزال. لكن وللأسف إن أغلب هؤلاء هم الذين وضعوا أنفسهم في هذه المواقف بسبب سوء التقدير أحياناً وسوء التصرف أحياناً أخرى. والملفت أن أغلب من يطلبون هم من الشباب ويفترض أن تكون أمورهم جيدة، لكن الديون عند البعض وسوء التصرف عند البعض الآخر أوصلهم إلى هذه النتائج. ما أصاب هذه الأسر، يمكن أن يصيب أية أسرة في أي مكان في العالم، ولكن لأننا دولة صغيرة وثرواتنا كبيرة، فإن هذه الحالات تكون واضحة وصارخة، لذا فإننا نفترض أن لا تكون عندنا هذه الظاهرة... لذا يفترض ألا يصل المواطن، بل حتى المقيم على أرض كالإمارات لمد اليد والسؤال للمساعدة، فالخير كثير في هذا البلد لكن عدم وجود نظام للمساعدات والتكافل الاجتماعي جعل هذه المشكلة تطفو، ولا اعتقد أن هناك أفضل من الزكاة ومصارفها المعروفة للقضاء على هذه المشكلات وغيرها. قد يقول البعض إن وجود هذه الطبقة من المواطنين المحتاجين الذين لا يملكون إلا قوت يومهم من النتائج الطبيعية للطفرة والانفتاح العقاري والاستثماري الذي تشهده الدولة. وهذا صحيح لكن ما يجب ألا يجعل هذا الوضع يستمر طويلاً، هو أننا في بلد غني وفي وقت وصل فيه سعر برميل النفط إلى أرقام عالية، وبالتالي، فإن دخل البلد من النفط ازداد كما أن الاستثمارات في تزايد مستمر. ويجب أن نتساءل ما الذي نتوقعه من مواطن يجد كل هذه الأمور من الاستثمارات والنفط تتطاير حوله ومن فوقه وهو جائع، لا يستطيع أن يكسي أطفاله أو يجهزهم للمدارس أو يشتري لهم ملابس جديدة للعيد؟! منذ أشهر قرأت تقريراً صحفياً مثيراً عن الزكاة في الدول العربية، والذي أكد على أن زكاة مال تجار السعودية ومصر فقط تؤدي إلى عدم وجود أي فقير أو متسول في الوطن العربي بأسره. أما لو أخرج تجار الخليج زكاة أموالهم لما بقي فقير أو متسول من المسلمين.. والمفارقة أن أغلب الفقراء والمتسولين من المسلمين! في الإمارات قرابة 150 ألف شركة محلية وأجنبية، وهي تجني أرباحاً سنوية بمئات الملايين من الدرهم، ولن يضرها كثيراً لو اقتطعت 2.5% من أرباحها، كي تساهم في دعم استقرار المجتمع... بعض التجار والشركات سيقولون إنهم يتصرفون بأموال الزكاة بطريقتهم الخاصة. فاعتقد أن ذلك يجب أن لا يستمر لأن من الواضح أن طريقتهم غير صحيحة، وإلا لما ظهرت على السطح تلك الحالات الصارخة لمواطنين يمدون أيديهم لطلب المساعدة! البعض الآخر من التجار سيقولون لماذا ندفع والحكومات مسؤولة عن مواطنيها وجميع الحكومات العربية تستطيع أن تساعد مواطنيها وحكومات دول الخليج ثرية وليست بحاجة إلى صدقات التجار كي يحلوا مشكلات المواطنين المالية؟ وغير ذلك من الردود الجاهزة لدى تجارنا الكبار! ويجب أن نؤكد أننا نتكلم عن الزكاة التي هي فرض على كل مسلم، وفي الوقت نفسه نتكلم عن المسؤولية الاجتماعية للتجار وللشركات، حيث يفترض أن تساهم في استقرار المجتمع وجزء من الاستقرار أن لا يكون هناك عدد كبير من المحتاجين. إننا نعيش في بلد ثري ولله الحمد، ولدينا قيادة حكيمة ورحيمة تتابع شؤون المواطنين أولاً بأول، وتحاول أن تساعدهم وبالطبع هذه مسؤولية الحكومة، لكن الجانب الآخر المهم هو دور القطاع الخاص والتجار، فيجب ألا يتوقف دورهم في جمع المال وزيادة أرباحهم دون القيام بواجباتهم الاجتماعية تجاه مجتمعهم. الشركات الأجنبية التي تعمل في الدولة، والتي لا تنطبق عليها فريضة الزكاة هي أيضاً مطالبة بأن يكون لها دور اجتماعي في البلد وأن تشارك في خدمة المجتمع، فهي في دول أخرى تساهم وتخصص ميزانيات لخدمة المجتمع، لكنها عندما تأتي إلينا تكتفي بجمع الأموال وزيادة الأرباح، وهذا قد لا يكون عيبا فيها وإنما لقصور في قوانيننا وأنظمتنا المحلية. أما دور الحكومة في هذا المجال، فيجب أن يكون واضحاً وصارماً في وضع القوانين التي تنظم دفع الشركات والتجار لزكاة أموالهم، وإذا ما كان الذي ذكره التقرير السابق صحيحاً فهذا يعني أن هناك مليارات من الدراهم يمكن أن يحتويها صندوق الزكاة ومن خلالها تتم مساعدة المحتاجين وستفيض تلك الأموال ليستفيد منها آخرون في دول أخرى. وبالطبع لا يكفي أن نجمع الأموال فالأهم أن نعرف كيف وأين نصرفها. النقطة الرئيسية في المشاركة الاجتماعية للتجار والشركات والمسؤولية الأولى في هذه المسألة تقع على الحكومة التي يفترض أن تضع القوانين والأنظمة التي تنظم عملية تحصيل أموال الزكاة وتحصيل المساهمات المالية من الشركات كما يجب عليها أن تطبق العقوبات على الشركات والتجار المتخلفين والمتخاذلين في دفع الزكاة من خلال صندوق الزكاة وليس من أي جهة أخرى وذلك حتى تنظم العملية وتكون واضحة. وعلى الحكومة أن تدعم صندوق الزكاة الذي أنشئ في الإمارات منذ العام 2003 وما يزال يعاني الكثير للقيام بدوره في المجتمع وما تزال الأموال التي يتلقاها محدودة جداً، بل لا تكاد تذكر إذا ما قارناها بحجم الأعمال والأرباح التي تشهدها سوقنا المحلية سنوياً، وبالتالي فإن دعم دور الصندوق من قبل الحكومة أمر صار في غاية الأهمية قبل أن يصل إلينا الفقر ويصبح بين مواطني الإمارات فقراء..