شهر الصيام ذا هلالهُ، وكم من شخصٍ لم يهلَّ هلالهُ، ففي هلال رمضان الماضي ناصفتُ شهر الصيام بعيداً عن أجوائهِ الاجتماعية والعباديةِ في بلد أوروبي عبر مشوار المعرفة والعلم والفكر الذي لا يعرفُ طريقاً ولا سبيلاً معلوماً. وإذا ما تذكرتُ تلك الرحلة تناهت إلى أسماعي أجراسُ الطربِ والحزنِ والحكمةِ تقرعُ بإيقاعات وجدانية متلاطمة متضاربة، فمن العاصمة إلى الجنوب كانت لتلك المسافة صورة غلبت عليها مناظر القبور على اليمين وعلى الشمال. ورغم الإرهاق الذي نال مني إلا أنه ما إن وصلت المدينة ودخلت شقتي المحجوزة سلفاً حتى دبَّ النشاط في أوصالي فذهبتُ لأفرغهُ في سوق المدينة القريب والصغير. وفي الطريق إلى السوق رأيتُ معالم دينية وثقافية وعلمية، أولها بيت لدكتور اكتشف علاجاً لمرض وبائي تحول إلى رمز من رموز المدينة، وكل ذلك قرأتهُ على ضريحهِ في حديقة بيته القديم. وفي نهاية السوق شمالاً هناك ساحة متوسطة تتقاطع مع ساحة كنيسة ضاربة في التاريخ، وفي هذه الساحة رأيتُ عُشاقاً فتناسيتُ نفسي برهةً، كما رأيتُ الكثير من الطلبة، ورجالاً ونساءً وآخرين على كراسٍ متحركة، وكانت الصورة العامة تدل على الحياة وعلى ثقافة لا تسمع فيها ضجيجاً ولا أصواتاً مزعجة، صورة مدينة نظيفة لا مكان فيها لعوادم السيارات الخانقة. أما أطرف صورة رأيتها في تلك الساحة فكانت رجلاً يخطو بخطوات صارمة ومنتظمة وقد ارتدى زيّاً عسكريّاً رومانيّاً أخذ يزداد صرامةً وانتظاماً كلما زاد المارة في تصويره عبر أجهزة الهاتف، وتقاطعتُ معهُ أمازحهُ، هنا رجل من الشرق! غير أنه لم يبادرني مزاحاً بل لم يعرني اهتماماً ومضى في طريقه يتوارى عن الأنظار، فربما كان يرى أشياء لا نراها نحنُ! توقفت عن التجوال عند غرب السوق حيث رأيتُ لوحة تدل على قبور متناثرة، وفي نفسي أقول ملء هذه الأرض قبور. طويت بقية النهار في النوم وعند الغروب ذهبتُ إلى المسجد الوحيد في البلدة دلتني عليه المسؤولة عن الشقة قبل أن أسألها. وفي المسجد الصغير كنتُ محل ترحيب لكوني حديثاً على البلدة، كانت للمسجد غرفة طعام ومصلى للرجال ومثلهما للنساء والأطفال، كنا عرباً وعجماً، بيضاً وحمراً وسمراً وسوداً، مسلمين جمعنا هذا الشهر مع كوننا أقلية صغيرة جداً. وبعد الإفطار والصلاة أخذ الكل يكلمني، يسألني، يرحب بي، يعرضُ خدماته. وبينما كنا نتجاذب الحديث ونرتشف القهوة والشاي، تلقيت اتصالاً من صديق يفجعني برحيل صديقي النجدي. كان النجدي معي في الدراسات العليا وجمعتنا مجالس سياسية وفكرية نجوب العالم وعالمنا الخاص من المسائل الاجتماعية إلى العقائدية، وكان من يعز عليَّ فراقهُ يحمل عُملة فكرية يرغب في تسويقها اجتماعيّاً، وكان لتلك العملة الاجتماعية وجهان، ليبرالي وسلفي، وبها كان توّاقاً هادفاً إلى خلق حيز من الحرية الاجتماعية تكون بين الدين المتشدد وبين الليبرالية المتطرفة ينطلق منها المجتمع، كان ينظر إلى مزج الليبرالية بالدين، وأول حاجز اصطدم به كان والدهُ الذي لم يتحمل من ابنهِ الشاب هذا الفكر الذي أخذ يبثهُ في الأقارب، رغم أن والدهُ كان يردد الحكمة تخرج من أفواهِ الشباب أحياناً. ووصلت الأمور إلى طردهِ من البيت بحجة أن البيت يضيق بالأبناء والأحفاد. وهكذا رمى ذلك الفكر السياسي والتنظير العقائدي الاجتماعي برفيقي النجدي في هموم وقضايا المجتمع المتعددة. وما زاد في إفجاعي كون رفيق الفكر والدرب المعرفي قد رحل في حادث مع زوجتهِ التوأم في الفكر السياسي الاجتماعي. لم أتمالك نفسي وأنا خارج من المسجد أتذكر عشقهما، وطنيتهما وفكرهما وتنظيرهما، وأستحضر رفقتهُ وتردده عليّ، كان يرى أن المجتمع الذي يحبس نفسهُ في سبل من الحراك الاجتماعي الضيقة، اتقاءً لله كما يدعي، ليس أحسن من الذي فك أوسع السبل للحراك الاجتماعي متجاوزاً البعد الديني والأخلاقي، لأن الأول أضر بالمجتمع بسجونهِ وأسوارهِ والثاني أطلق العنان وأضر وأفسد المجتمع، وكان يَنظُر إلى الوسطية فيجد أنها مهما كانت سلبياتها فإيجابياتها أكبر. وهنا تسللت عَبَرات من محجر عيني حاولت حبسها فخانتني وانسابت. ثم تذكرتُ تلك المقبرة، تلك المقبرة غرب السوق وأنا أطوي شريطاً من الذكريات معهُ، أخذت رجلي تقودني إلى غرب السوق، تقودني على رغبة القلب في رؤية المحطة الأخيرة للبشر، تخيلت أنهما يرقدان هناك غرب السوق. وعلقت بذهني وأنا أهرول إلى المقبرة جملة كان يرددها بأن الإنسان زائل وما يبقى بعده إلى حين سوى ما فعل وكسب.. وصلت إلى المقبرة وكان المكان موحشاً وزاده البرقُ والمطر وحشةً وحزناً. وقفت ألتقطُ صوراً بعيني على القبور وأبحثُ في أعمارها، أبحث عن عمر صديقي وزوجته لأواسي بشبيههما نفسي الحزينة، أقرأ على الشواهد وُلِد في كذا.. رَحَل في كذا.. وفي كل بارقة من السماء الماطرة أرى ألواح القبور بوضوح. وعلى حس أنفاس ثقيلة، التفتُّ يساراً لأرى رجلاً طويلاً بلغ من العمر أغبرهُ، وما أن وقعت عيني في عينهِ حتى سألني: ماذا تفعل هنا؟ رجعت بعيني إلى القبور أبحث في أعمارها، ثم أخذ صوتُهُ المبحوح يروي لي حديثاً ذا شجون: هذا مكان يبدو مخيفاً من بداية الغروب حتى الشروق، ففي كل جنازة هناك بكاء، هل هذا البكاء للفراق أم لهذه النهاية الحتمية التي لا مفر منها؟! رجعتُ بعيني نحوهُ، وأخذ العجوز يتحدث: أتعرف من أنا؟ يسمونني القرن الماضي، أنا أعلمُ رجلٍ بمعظم هذه القبور. أشرتُ بالبنان: انظر لذاك القبر إنه كان أشد الناس تعاسة لأنه لم يتجاوز الثلاثين، فرد عليّ: بل كان سعيداً منذ طفولته إلى موته، عاش لثلاثين عاماً وهو سعيد، فهو من أسرة غنية وكان ناجحاً في دراسته ولم يعرف الحرمان والفشل ولا حتى المرض ورغم ذلك مات. أشرتُ إليه انظر إلى قبر ذاك: قبر لعمر التسعين كان سعيداً ولا أشك في ذلك. ضحك قائلاً: عاش صاحب هذا القبر وهو يتصور كم ستكون حياته سعيدة مع حبيبتهِ التي تركتهُ ورحلت مع غيرهِ فقد كان يتصور أن معها كنوز السعادة. ثم أشار إلى قبر صاحبهُ ذو خمسة وعشرين عاماً قائلاً: إنه بطل للوطن في الحرب العالمية الثانية. وعادت عيناه إلى جوارهِ ثم ضحك باستهزاء قائلاً: انظر إلى هذا القبر، هنا بجواري، كان صاحبهُ مجرماً ولصاًّ لم تستطع الشرطة القبض عليه ورغم ذلك قتلتهُ الكلاب المتوحشة وهو جريح إثر مطاردة. سألته عن قبر يقبع في زاوية: أهذا القبر حقاًّ مميز أم لا؟ هز رأسه قائلاً: إنه ذراع الأمير وقلب الشعب، كان هذا الشخص محباًّ للأمير ومحباًّ للشعب في هذه البلدة، كان ينقلُ أحوال الفقراء والمحتاجين وقضايا البلدة إلى الأمير الذي كسب شعبية كبيرة بفضل هذا الرجل الصادق الذي سَخِرَ من اليمين واليسار السياسي وناصر الأمير والشعب. ثم رفع مُكَلِّمي يده اليمنى قائلاً: تلك، تلك قبور العمال والبسطاء الذين كان ملء حياتهم عملاً وسعادة.. نظرتُ إلى قبر طفلة صغيرة لم تتجاوز الثمانية أعوام، وطال تأملي وتألمي ثم رجعت بعيني إلى الرجل، فلم أرَ أحداً، لا قريباً ولا بعيداً: لقد اختفى. وأخذ المطر يخف تساقطهُ وأخذت الرياح تصفِّر، فتملكني شيء من الخوف، هل كان ذالك الرجل خيالاً أم واقعاً؟! لست أدري. رجعتُ بخطوات ثقيلة إلى مركز البلدة، وكلما اقتربت من سكني قويت أصوات موسيقية في أذنيّ، فإذا بلفيف من البشر حول شخص قد وضع قبعة لجمع المال وهو يعزف الكمان على إيقاع حزين ثم دخل على إيقاع سريع مرح يرجِّل الراكب ويحرِّك الساكن، جلستُ على رصيفٍ وكوعيَّ على ركبتيّ انظر من زاوية إلى الرقصات المختلفة الصادرة عن ذلك اللفيف، وعلى رقصة لا شرقية ولا غربية تضرب الأرض تارة وتمسحها تارةً أخرى، وأقدام ترقص بإيقاع منتظم مرة تلو المرة، وكأني بالأرض صورةٌ للحياة حين ضربها، وكأني بها صورة للرحيل حين المسح.