بالنظر إلى الوراء، يبدو إعلان قمة "الناتو" للثالث من أبريل الماضي حول جورجيا وأوكرانيا إجرامياً نوعاً ما من حيث عدم مسؤوليته:"لقد اتفقنا اليوم على أن يصبح هذان البلدان عضوين في الناتو". هذا التعهد الفضفاض صدر عن اجتماع بوخارست الذي كان جد منقسم حول طموحات هذين البلدين للانضمام إلى التحالف الأطلسي إلى درجة أنه لم يستطع حتى الاتفاق على تقديم الخطوة الأولى نحو الانضمام - "مخطط عمل ممهد للانضمام"- الذي يهيئ البلدان لدخول "الناتو". فمن غير المقبول أن تعلن عن أهدافٍ وسائلُ تحقيقِها غير موجودة وتخفي الانقسامات الأوروبية الأميركية عبر تصريحات طنانة ولكنها فارغة؛ فتاريخ ما تسمى"المناطق الآمنة" في البوسنة، وسريبرينيتشا واحدة منها، دليل كاف ودال على إراقة الدماء التي تنطوي عليها التعهدات الفضفاضة. وعلاوة على ذلك، فإن قمة بوخارست لم تنجح سوى في إغضاب الروس من دون توفير القيمة الردعية لخطوات ملموسة تجاه جورجيا وأوكرانيا؛ حيث أعرب فلاديمير بوتين، الرئيس الروسي وقتها ورئيس الوزراء حاليا، لبوش عن غضب موسكو لاحقاً في منتجع سوشي الروسي، ولكن بوش كان نائماً في الطريق على ما يبدو. منذ ذلك الوقت، أريقت الدماء، واهتزت الحدود الجورجية، واعترفت روسيا الصاعدة من جديد بإقليمي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا الانفصاليين؛ وتلك قصة تحذيرية في الواقع لقمة الاتحاد الأوروبي الخاصة بالأزمة الجورجية: لا تعهدات فارغة رجاء، ولا تلويح بتهديدات أو عقوبات ضد روسيا لا توجد الإرادة أو الوسائل لتنفيذها. أنا مستاء مما ارتكبته روسيا في جورجيا؛ وخصوصاً أن معسكرات الأعمال الشاقة السوفييتية واستعباد مناطق واسعة من أوروبا من قبل الاتحاد السوفييتي يضع على عاتق موسكو مسؤولية تاريخية عن حرية جيرانها. وقد كان الرئيس الأوكراني فيكتور يوشينكو واضحاً في التعبير عن مخاوف هؤلاء الجيران حين قال:"ما حدث هو تهديد للجميع". وهو بالفعل كذلك، ولكن بوتين، أو بوتين الثاني على الأقل، الرجل الغاضب في النصف الثاني من فترة حكمه، يعتقد أن كل ذلك كلام فارغ. وعلاوة على ذلك، فقد وصف رجل جهاز المخابرات السوفييتية السابق، في 2005، انهيار الاتحاد السوفييتي بأنه "أكبر كارثة جيوسياسية" في القرن العشرين. وبالتالي، فربما ينبغي ألا نفاجأ بالاستيلاء على جورجيا؛ ولكن مع ذلك، فإن الصدمة محسوسة وواضحة في أوروبا والولايات المتحدة. خلال المؤتمر الوطني للحزب "الديمقراطي" في دنفر الأميركية، حضر وفد جورجي من أجل حشد التعاطف والدعم؛ ذلك أن العلاقات الدولية هي أفضل سلاح بالنسبة لدولة ضعيفة في القرن الحادي والعشرين. وبهذه المناسبة، قال لي رئيس البرلمان الجورجي ديفيد باكرادز:"إن هدف روسيا هو إضعاف جورجيا إلى درجة أن يصبح الحلفاء الأطلسيون خائفين، ويجلب انعدام الاستقرار تغييرا للنظام، وتتغير خريطة أوروبا بالقوة العسكرية". لا يمكنني أن أجادل ضد هذا الرأي؛ ولكن قبل أن ننتقل إلى ما ينبغي أن نفعله إزاء هذا الأمر، لا بأس من مراجعة بعض النقاط التاريخية: لا، لم يرتكب الغرب خطأ حين قام بتوسيع "الناتو" ليشمل الدول التي كانت تابعة للإمبراطورية السوفييتية في أوروبا والبلطيق. فديْن مؤتمر يالطا والحفاظ على وحدة أوروبا وحريتها لا تقتضيان أقل من ذلك. هل كان بالإمكان القيام بجهود أكبر لإدماج روسيا ضمن هذه "الهندسة" الأوروبية الجديدة؟ لا أعتقد. الواقع أن جهوداً كثيرة بُذلت لدفع الروس غرباً؛ حيث أُسس مجلس (الناتو- روسيا)؛ وشرع في التعاون حول تفكيك الأسلحة النووية وحظر الانتشار النووي؛ وحاول "بوريس يلتسن" كسر التقاليد الإمبريالية لروسيا؛ ولم يقم بوتين بالعدول عن هذا المسار فوراً. والحقيقة أن القصة الكاملة للعوامل التي جعلت بوتين ينقلب لا يمكن كتابتها بعد؛ ولكن الأكيد أن "الثورة الوردية" لجورجيا في 2003، و"الثورة البرتقالية" لأوكرانيا في 2004 كانتا حاسمتين؛ وأن العراق لعب دوراً كذلك. كما أنني واثق أن الكميات الهائلة من الأموال التي تذهب إلى مدراء دولة روسية ذات أنبوب طاقة واحد، وبوتين في مقدمتهم، كان لها دور كذلك. بيد أن روسيا ستدفع ثمن ما قامت به؛ ذلك أنها أغضبت الصين، وفتحت برميل بارود في دولة هي نفسها تضم أقليات مرشحة للانفصال، وفقدت ورقة الاحتكام للقانون الدولي. إلا أنه بدلاً من حرب باردة جديدة، نحن اليوم في حرب واسعة جديدة تضم عدداً من اللاعبين، في مقدمتهم الصين؛ وروسيا بوتين غلَّبت المكاسب قريبة المدى على المصالح بعيدة المدى. وبالتالي، يتعين على الغرب ألا يقوم بوقف المحادثات مع روسيا حول الحد من التسلح والدفاع الصاروخي، لأن ذلك لا يخدم مصلحة أي منهما. وكذلك الأمر بالنسبة لمحاولة طرد روسيا من مجموعة الثماني الكبار. على أنه لا يمكن للغرب في الوقت نفسه أن يقبل بأن يتم إخضاعه، ولذلك، يتعين عليه أن يساعد الرئيس الجورجي ميخائيل سكاشفيلي بالدعم المالي وغيره؛ وأن يبقي على ممر الطاقة العابر لبحر قزوين والملتف حول روسيا مفتوحاً؛ وأن يدعم استقلال أوكرانيا. كما يتعين عليه خلال اجتماع وزراء خارجية "الناتو" في ديسمبر المقبل أن يستبدل التعهدات الفارغة والفضفاضة التي صدرت عن قمة بوخارست بأمور أساسية من قبيل "مخطط عمل ممهد لانضمام" جورجيا وأكرانيا. لقد أدى التصميم وسياسة الإشراك إلى الفوز في الحرب الباردة؛ وهو ما يمكن أن ينجح أيضاً في الحرب الواسعة. روجر كوهين كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"