في سياق احتفال المجتمع المصري بالعيد السادس والخمسين لثورة 23 يوليو 1952، لابد لنا أن نؤكد على فكرة جوهرية هي أن الثورة حدث استثنائي للغاية في تاريخ الشعوب. فالثورة لا تقوم إلا بتوافر ما يطلق عليه في الأدبيات الماركسية "الموقف الثوري". والموقف الثوري -بحسب التعريف- لا يكتمل إلا بتضافر عديد من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية المركبة التي تميز مجتمعاً ما في لحظة تاريخية فارقة، مما يدعو الى احتشاد قوى سياسية واجتماعية تُجمع على تغيير النظام السياسي القائم وفق رؤية جديدة تهدف إلى إعادة صياغة المجتمع على أسس أيديولوجية جديدة. ولو استقرأنا التاريخ المصري المعاصر لاكتشفنا أن المرحلة التاريخية التي تبدأ بنهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 حتى عام 1952 كانت حاسمة في تاريخ العالم وفي تاريخ مصر على السواء. ويمكن القول إن "الموقف الثوري" تبلورت ملامحه أساساً منذ عام 1950 وحتى عام 1952. فقد ثبت عقم النظام الحزبي وفشل الأحزاب السياسية التي توالت على الحكم في تحقيق انفراجة سياسية بحل المشكلة الوطنية، كما ثبت أنها، لفرط جمودها الإدراكي، لم تلحظ أن النار الطبقية كانت تشتعل تحت رماد السكون الاجتماعي والجمود السياسي، وهكذا قام "الضباط الأحرار" بقيادة عبدالناصر بانقلابهم العسكري الذي تحول إلى ثورة، بحكم أن هؤلاء الضباط تبنوا مشروع التغيير الاجتماعي الذي وضعته القوى الوطنية المصرية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. وقد استطاعوا حل "المشكلة الوطنية" باتفاقية الجلاء التي وقعت بين ضباط الثورة والإنجليز عام 1954. وتصدوا للمشكلة الاجتماعية بعد ثلاثة أسابيع فقط من قيام الثورة عام 1952 بإصدار قانون الإصلاح الزراعي الأول. ولا نريد أن نغوص كثيراً في أحداث الماضي على رغم الخلافات المتعددة حول تقييمها من قبل القوى السياسية المصرية المتعددة، بل نريد أن نركز على آفاق المستقبل. من المعروف أن مصر مرت بمراحل متعددة منذ عام 1970 تاريخ وفاة الرئيس عبدالناصر حتى الوقت الراهن. وأبرز التحولات التي حدثت هو إلغاء الحزب الواحد، ونعني الاتحاد الاشتراكي، في بداية عهد الرئيس السادات، وإلغاء التوجه الاشتراكي، والانتقال من اقتصاد التخطيط إلى اقتصاد السوق. ونتيجة لهذا التحول التاريخي حدثت انقلابات متعددة في بنية المجتمع المصري. وهي انقلابات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية. وتمثلت الانقلابات السياسية في قبول مبدأ التعددية الحزبية وإن كانت مقيدة بالدستور والقانون، أما الانقلابات الاقتصادية فقد تمثلت في الانتقال إلى ما أطلق عليه "الانفتاح الاقتصادي" ويقصد به ببساطة التحول إلى الرأسمالية. وعلى الجانب الاجتماعي برزت طبقات اجتماعية جديدة احتلت أعلى السلم الاجتماعي، في حين هبطت مكانة الطبقة الوسطى والطبقة الدنيا، وأخيراً لوحظ -على الجانب الثقافي- صعود التيارات الدينية، التي أخذت شكل موجات من التدين الشعبي من ناحية، وتحكم النص الديني في قيم واتجاهات وسلوكيات العديد من المصريين. هذا التحول التاريخي الحاسم من عهد الثورة إلى عصر الرأسمالية تعمق في عهد الرئيس حسني مبارك، وإن كان قد اتخذ أشكالاً مستحدثة ومضامين مختلفة. فقد أصبح شعار المرحلة هو "الإصلاح الاقتصادي"، بمعنى التصفية الكاملة للإرث الاشتراكي القديم للثورة، والتحول الكامل إلى التنمية الرأسمالية تحت شعار الخصخصة بمعنى تصفية القطاع العام وهو اتجاه تضغط في سبيل تحقيقه المنظمات الدولية وعلى رأسها البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية على وجه الخصوص. وفي تقديرنا أنه نظراً للممارسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي شهدناها في العقد الأخير، فإن مصر في حاجة إلى وقفة حاسمة لتقييم ما مضى ولاستشراف المستقبل. ونحن لا نستطيع وصف المشهد المصري الراهن -على رغم صخب أصوات المعارضة- بأنه يعبِّر عن "موقف ثوري" يدعو بالضرورة إلى تغيير النظام السياسي. ولكننا من -وجهة النظر النقدية- نصِف المشهد الراهن بأنه يعبِّر عن موقف سكوني جامد للنظام السياسي، نتيجة عدم الالتفات إلى أهمية صياغة رؤية استراتيجية للمستقبل. ونبدأ لكي نؤكد سيادة الركود السياسي في البلاد على رغم التعديلات الدستورية غير المسبوقة التي أدخلت على الدستور المصري. وأهمها على الإطلاق الانتخابات التنافسية على منصب رئيس الجمهورية. وذلك على رغم قصور صياغة المادة 76 بشروطها التعجيزية. غير أن الركود يرد أساساً إلى احتكار "الحزب الوطني الديمقراطي" لمجمل المجال السياسي، وهيمنته بحكم أنه حزب الأغلبية على عملية صنع القرار في مجلسي الشعب والشورى. ومن ناحية أخرى الضعف الشديد لأحزاب المعارضة، بحكم تقييد النظام لحركتها، من ناحية، ونتيجة للانقسامات الحادة بين قياداتها وغياب الديمقراطية الداخلية فيها، من ناحية أخرى. غير أن أخطر ما يميز المشهد المصري الحالي هو تشتت السياسات الاقتصادية، وعشوائية العديد من القرارات التي تؤثر سلباً على حياة المواطنين، بدون أن تصدر عن رؤية متكاملة. وقد أدت هذه السياسات التي أفادت في المقام الأول طبقة رجال الأعمال إلى تدهور أحوال الطبقة الوسطى وزيادة معدلات الفقر. غير أن الأخطر من ذلك كله أنه لا يبدو واضحاً ما هي الخيارات الاقتصادية لمصر في عصر العولمة الذي يتميز بالمنافسة الشرسة بين الأقوياء والضعفاء. وفي المجال الاجتماعي هناك مشكلة البطالة المتفشية وخاصة بين الشباب، بالإضافة إلى الأزمة في مجال اختلال القيم الذي بات مؤثراً على السلوك الاجتماعي للنخبة والجماهير على السواء. وفي ضوء ذلك كله فنحن لسنا في حاجة إلى البكاء على إنجازات ثورة يوليو التي ضاعت، فلكل مرحلة تاريخية منطقها، كما أننا لسنا في حاجة إلى التشفي -كما فعلت بعض الأصوات السطحية- في الثورة بالحديث عن أطلالها. إن التحدي الحقيقي الماثل أمام قادة النظام السياسي على وجه الخصوص، وأمام المجتمع المصري بكل فئاته على وجه العموم، هو كيف يمكن صياغة رؤية استراتيجية لمصر تسمح لها بأن تخوض عباب محيط العولمة في العقود القادمة؟ والرؤية الاستراتيجية -بحسب التعريف- هي مجموعة الخيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لمجتمع ما في العشرين عاماً القادمة. ومن هنا تثور عدة أسئلة بالغة الأهمية: أولاً، ما هو شكل النظام السياسي الذي نرجوه لمصر، هل تبقى على النظام الرئاسي بعد تحرير المادة 76 من قيودها لتصبح الانتخابات الرئاسية تنافسية حقاً، أم تنتقل إلى النظام البرلماني؟ ثانياً، كيف يمكن إصلاح نظام التعددية الحزبية؟ وكيف نخرج الأحزاب السياسية المعارضة من موقف عدم المشاركة إلى أوسع درجة من المشاركة السياسية؟ ثالثاً، ما هي خيارات مصر الاقتصادية، وما هي توجهاتها في مجال التكنولوجيا وخاصة تلك رفيعة المستوى، وما هو موقفها من ثورة "النانو" تكنولوجي القادمة؟ رابعاً، كيف يمكن أن نسد الفجوة الطبقية الواسعة بين الأغنياء والفقراء في البلد؟ وكيف نرشد عمليات الاستهلاك التفاخري الذي تمارسه طبقة الأثرياء الجدد بنوع من الهستيريا الطبقية، التي تكشف عنها سوق العقارات الفاخرة التي تباع الوحدة منها بعشرات الملايين من الجنيهات، في حين أن العشوائيات التي تحيط بالمدن الكبرى تتسع وتتمدد، والفقر يزيد؟ خامساً، أيَّ وجهة ثقافية سيتخذها المجتمع المصري، وهل ستخضع البلاد لهيمنة التيارات الدينية المتطرفة التي تزيد من خلال القياس الخاطئ والتأويل المنحرف للنصوص الدينية مصادرة اتجاهات المعاصَرة لحساب مجموعة من التقاليد البالية؟ أسئلة متعددة لا يمكن الإجابة عنها إلا من خلال حوار ديمقراطي حقيقي لكافة القوى والتيارات السياسية. حوار لا يستبعد منه أحد، سعياً وراء صياغة رؤية استراتيجية بصيرة للمستقبل.