كثر الحديث مؤخراً في وسائل الإعلام المقروءة والمرئية عن وباء السمنة الذي يجتاح العالم حالياً، ويصيب عشرات الملايين من مختلف الأمم والشعوب. هذا الجانب من الإفراط الإنساني، يقابله جانب آخر من الشح والعوز، نادراً ما يلقى نفس الاهتمام. ففي الوقت الذي تئنُّ فيه العديد من المجتمعات تحت أوزان أفرادها، يلقى 3.5 مليون شخص حتفهم كل عام بسبب الجوع وسوء التغذية، وهو رقم يتوقع له أن يزداد بشكل ملحوظ، في ظل أزمة ارتفاع أسعار الغذاء الحالية. فمن بين دول العالم جميعها، يعاني شعوب 21 دولة من معدلات مرتفعة من سوء التغذية الحادة والمزمنة. بينما ينفق فقراء العالم -وما أكثرهم- ما يزيد على نصف دخلهم اليومي على الغذاء، مما يعيقهم عن الإنفاق بشكل مناسب على أمور الصحة والتعليم. هذا الوضع، وإن لم يكن جديداً ولا مفاجئاً، يتوقع له أن يزداد سوءاً مع ازدياد أسعار الغذاء العالمية. وهو ما دفع بالأمم المتحدة في أبريل الماضي، إلى تشكيل فريق عمل عالي المستوى، بهدف وضع وتنفيذ خطة عمل، لمواجهة الآثار الدولية المتوقعة لارتفاع أسعار الغذاء. وتلعب منظمة الصحة العالمية (World Health Organization) دوراً مهماً ومحورياً ضمن مهام فريق العمل الدولي. وقد كلفت المنظمة بهذا الدور، وهي المنظمة المعنية بمكافحة الأمراض المُعدية وغير المُعدية، بسبب التبعات الصحية والطبية المتوقعة للأزمة العالمية في أسعار الغذاء. وهذه التبعات ستظهر على شكل؛ أولاً: زيادة حالة سوء التغذية، وارتفاع نسبة الوفيات والأمراض بين الأمهات والأطفال في مراحل عمرهم الأولى. فمن المعروف أن الحوامل والمرضعات والأطفال حديثي الولادة والرضَّع، هم الأشد حاجة إلى غذاء صحي متوازن خلال هذه المراحل الحرجة من حياتهم. ولذا فدائماً ما يؤدي سوء التغذية بين هذه الفئات إلى الإصابة بالأنيميا المزمنة، والالتهابات الرئوية الحادة، والهزال العام. ثانياً: بخلاف الآثار الفورية، يتوقع عادة لحالة سوء التغذية المزمن أن تؤدي إلى انخفاض في القدرات العقلية على المدى الطويل، وإلى تدهور في مستوى التحصيل العلمي، ومن ثم ضعف القدرة الإنتاجية للمجتمع برمته. ثالثاً: زيادة انتشار الأمراض المُعدية، بسبب الضعف العام، وضعف جهاز المناعة بالتحديد، نتيجة تدهور الحالة الصحية العامة. رابعاً: الانتقاص من قدرة الفقراء على شراء الأطعمة الصحية المغذية، ولجوؤهم إلى الأغذية غير الصحية، منخفضة القيمة. ولاشك أن هذا التغير في العادات الغذائية، من شأنه أن يزيد من انتشار الأمراض غير المعدية، المعروف عنها ارتباطها بنوعية الغذاء. خامساً: كما أن زيادة الإنفاق الفردي والعام على الغذاء اليومي، من شأنها أن تنتقص مما ينفق على الرعاية الصحية من تشخيص وعلاج وإجراءات وقائية ضد الأمراض المُعدية وغير المعدية. سادساً: وسيترتب على كل ذلك استطراداً الإخفاق في تحقيق أهداف الألفية المعنية بتحسين مستوى الصحة العام، في النهاية. ويكفي لإدراك مدى الارتفاع في أسعار المواد الغذائية حول العالم، استرجاع إحصائيات منظمة الزراعة والأغذية العالمية المنشورة بداية هذا العام، والتي تشير إلى أن مؤشر أسعار المواد الغذائية حول العالم، قد ارتفع بنسبة 50% عن مستوياته العام الماضي. وإذا ما أفردنا القمح بالذكر، فسنجد أن أسعاره قد ارتفعت بثلاثة أضعاف مقارنة مع أسعار الصيف الماضي، بينما ارتفعت أسعار فول الصويا بمقدار 87%، وأسعار الذرة بمقدار 30%. وهو ما أدى ببعض الدول إلى رفع رسوم التصدير على هذه المحاصيل إلى خارج أراضيها، بينما منعت دول أخرى تصدير هذه المحاصيل بالمرة. ولكن ما السبب في هذا التحول الفجائي في أسعار الغذاء، بعد أن كانت تشهد استقراراً نسبياً خلال العقود الأخيرة؟ إن إجابة هذا السؤال تتضمن قائمة من العوامل والظروف، منها: 1- ارتفاع أسعار الطاقة وخصوصاً النفط. 2- تزايد استخدام المحاصيل الزراعية لإنتاج الوقود الحيوي. 3- التغيرات المناخية بما تؤدي إليه من هلاك للزرع والمحاصيل. 4- تزايد تصحُّر الأراضي الزراعية. 5- تضاعف أعداد أفراد الجنس البشري، وازدياد نسبة استهلاك الفرد من المحاصيل الزراعية. وأمام هذا الموقف المثير للاكتئاب، تظهر بارقة أمل في القاعدة الاقتصادية الناصَّة على أن أفضل علاج لارتفاع الأسعار، هو ارتفاع الأسعار ذاته. أي أن ارتفاع الأسعار، بما يحمله من عائد مادي جيد على المنتجين، يؤدي إلى استقطاب المزيد من رؤوس الأموال، والأيدي العاملة، نحو القطاع المعني. وهو ما بدأ يظهر بالفعل مع القمح الذي وصلت أسعاره إلى أرقام قياسية. حيث اتجه المزيد والمزيد من المزارعين إلى زراعته، بسبب هامش الربح المرتفع الذي يحققه حالياً. وتشير التوقعات إلى أن مساحات الأرض المزروعة بالقمح في الولايات المتحدة وكندا وأوروبا ستشهد زيادة ملحوظة في عام 2009 مقارنة بما كانت عليه في العام الحالي. وأيضاً بسبب العوائد السخية على الاستثمارات الزراعية، اتجهت مؤخراً العديد من صناديق الاستثمار والأفراد، إلى ضخ المزيد والمزيد من أموالهم في الاستثمارات الزراعية. بل لقد أصبح من المعتاد حالياً في أية محفظة استثمارية متنوعة، أن يخصص جزء من استثماراتها للقطاع الزراعي. ولكن هذا لا يعني أن نتوقع عودة أسعار الغذاء لما كانت عليه خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات، اللهم إلا إذا انخفضت أسعار النفط إلى مستوياتها خلال تلك الفترة، وثبت عدد أفراد الجنس البشري عند ما كان عليه سابقاً، ونجح العالم في وقف، إن لم يكن عكس اتجاه، تأثير التغيرات المناخية التي تأتي حالياً على الأخضر واليابس في العديد من مناطق العالم. د. أكمل عبد الحكيم