خطت ولاية كاليفورنيا الأميركية هذا الأسبوع خطوة مهمة على طريق التاريخ الصحي، عندما أصبحت أول ولاية أميركية تمنع على المطاعم ومحال بيع الأطعمة، استخدام الدهون المُهدْرجة أو المتحولة (Trans-fats). ففي يوم السبت الماضي، وقّع حاكم الولاية "آرنولد شوارزنيجر"، قانوناً ينص على بدء هذا المنع في يناير عام 2010، وهو ما اعتبر من قبل الكثيرين خطوة مهمة على صعيد تحسين المستقبل الصحي لسكان الولاية. وبذلك تكون كاليفورنيا قد حذت حذو مدن أميركية أخرى، مثل نيويورك، وفيلادلفيا، وسياتل، التي منعت جميعها أيضاً استخدام الدهون المهدرجة، وإن كانت كاليفورنيا هي أول ولاية تمنع استخدامها في جميع مدنها. ولفهم أهمية هذا القانون، ولماذا يعتبره البعض خطوة تاريخية على الصعيد الصحي، لابد أن نسترجع بعض المعلومات الأساسية عن الدهون المهدرجة، خصوصاً الدراسات التي تشير الواحدة منها تلو الأخرى إلى علاقتها بأمراض القلب والشرايين. ومن البداية، وكما يدل اسمها، تنتج الدهون المهدرجة من عملية "هدْرجة" زيوت النباتات، أي إضافة ذرة هيدروجين إلى تركيبها الكيميائي، مما يحولها من الحالة السائلة للزيت، إلى الحالة شبه الصلبة للسمن، ولذا يطلق عليها أحياناً مسمى "السمن الاصطناعي". ويعود اكتشاف هذه العملية الصناعية إلى بداية القرن العشرين، ثم انتشر استخدامها لاحقاً بسبب ما تمنحه للمنتجات من نكهة طبيعية، وما تحققه من زيادة في فترة الصلاحية للأغذية المعلبة والمصنعة. فمثلاً البسكويت المصنّع باستخدام الدهون المهدرجة، تتضاعف فترة صلاحيته مقارنة بالبسكويت المصنع بالزيوت النباتية الطبيعية، مما يمنح محال الـ"سوبرماركت" فرصة إبقائه على رفوف البيع لفترات طويلة (Shelf Life)، قبل أن تضطر لإعدامه والتخلص منه. هذا بالإضافة إلى أن الدهون المهدرجة زهيدة الثمن بسبب انخفاض تكلفة إنتاجها، مما يتيح إضافتها بكميات مناسبة لزيادة وزن المنتج النهائي، دون أن تكلف المصنع الكثير. وتقدر هيئة الأغذية والعقاقير الأميركية أن الفرد الأميركي يستهلك سنويّاً أكثر من كيلوجرامين من الدهون المهدرجة في المتوسط. وإذا ما أخذنا في الاعتبار أن أحد الأهداف الأساسية لاستخدام الدهون المهدرجة من قبل صناعة الغذاء، هو زيادة الوزن دون زيادة الثمن، فسيسهل علينا التخمين بأن معدلات استهلاك الفرد في الدول الفقيرة أعلى بكثير من استهلاك الفرد الأميركي، لتصل ربما إلى عدة كيلوجرامات من الدهون المهدرجة سنويّاً. ولكن بما أن الزيوت المهدرجة تحقق كل هذه الفوائد، وتوجد أساساً في الطبيعة في منتجات الألبان واللحوم، فما المشكلة إذن في استخدمها؟ بداية، لا توجد الدهون المهدرجة في المنتجات الطبيعية، بالكميات الهائلة والضخمة نفسها التي توجد بها في الأغذية المصنعة. ولا تحمل الدهون المهدرجة، ثانياً، أية قيمة غذائية، كما لا تعتبر من الدهون الأساسية، ولا تتضمن أية فائدة صحية. بل إنها على العكس تسبب ضرراً صحياً، إلى درجة أنه لا يوجد حد لاستهلاكها بأمان. أي أن كمية من الدهون المهدرجة، حتى ولو كانت قليلة، مثلها مثل تدخين التبغ، تسبب ضرراً صحياً، وهي الحقيقة التي كشفت عنها دراسة مهمة، نشرت عام 2006 في واحدة من أشهر الدوريات الطبية في العالم على الإطلاق (New England Journal of Medicine). وخلصت هذه الدراسة، من خلال مراجعة جميع الدراسات الأخرى التي أجريت حول الموضوع نفسه، إلى وجود علاقة قوية بين استهلاك الدهون المهدرجة، وبين الإصابة بأمراض القلب والشرايين، إلى درجة أن خفض استهلاك الدهون المهدرجة، سيؤدي إلى خفض بمقدار 20% في عدد حالات الإصابة بأمراض القلب، وفي الوفيات الناتجة عنها. وفسرت الدراسة هذه العلاقة، بأنها نتيجة تسبب الدهون المهدرجة في رفع مستوى الكوليسترول السيئ (LDL) في الدم، وخفض مستوى الكوليسترول الجيد (HDL). وفي ظل حقيقة أن من بين جميع أسباب الوفيات البشرية، تتسبب أمراض القلب والشرايين في ما بين 27% إلى 29% منها، فإن الإجراءات الهادفة إلى منع الأسباب المؤدية إليها تكتسي أهمية خاصة على صعيد الوقاية. فمثلاً في الولايات المتحدة، التي يستهلك الفرد فيها كيلوجرامين من الدهون المهدرجة، تشير التقديرات إلى إصابة أكثر من خمسين مليون شخص بنوع أو آخر من أنواع أمراض القلب، وهو الواقع الذي ينطبق أيضاً على غالبية الدول الغربية والدول الغنية الأخرى، مما يجعل هذه الأمراض السبب الأول في الإعاقة الصحية وفي الوفيات في تلك الدول. ولذا يسعى الكثير من الجهات الصحية حول العالم، إلى سن القوانين والتشريعات الهادفة إلى خفض استهلاك أفراد مجتمعاتها من الدهون إلى درجة الصفر، إن أمكن. أما في العالم العربي، فتظل الصورة غير واضحة، من حيث إدراك أفراد المجتمع الطبي لخطورة الدهون المهدرجة على صحة القلب وشرايينه، أو من حيث مبادرات الجهات المسؤولة عن الصحة العامة والسلامة الغذائية إلى منع وتحريم استخدام الدهون المهدرجة. فحال عالمنا العربي من حيث أمراض القلب والشرايين، لا يختلف كثيراً عن حال بقية دول العالم على صعيد الإصابات والوفيات، حيث تحتل هذه الطائفة من الأمراض رأس قائمة أسباب الوفيات في غالبية دول المنطقة. وهو ما يجعل المنع القانوني لاستخدام الدهون المهدرجة، بالإضافة طبعاً إلى بقية الإجراءات الهادفة إلى خفض عوامل الخطر الأخرى، إحدى أهم الخطوات الممكن اتخاذها لخفض عدد من تتصلب وتنسد شرايين قلوبهم بسبب الدهون المهدرجة أو غير المُهدرجة. د. أكمل عبد الحكيم