أصدر معهد الكومنولث، كامبريدج، ماساشوستس في الولايات المتحدة الأميركية، في نهاية يونيو 2008 تقريراً بعنوان "الخطوات الضرورية لانسحاب أميركي مسؤول من العراق... بسرعة وحذر وإنفاق سخي"، قام بإعداده فريق من الخبراء الأكاديميين والعسكريين ونواب من الكونجرس الأميركي، لاقتراح أفضل السبل والخطوات الواجب اتخاذها لتنفيذ قرار بوش الصغير بالانسحاب العسكري الكامل من العراق خلال فترة 12-18 شهراً القادمة. يصدر هذا التقرير في وقت يعاني فيه العراق تدخلاً إيرانياً سافراً، وإنهاكاً أمنياً غير مسبوق، وخللاً في المواطنة والوطنية، وانقساماً سياسياً في ظل حكومة طائفية لم تشهدها الدولة العراقية من قبل، وتدهوراً اقتصادياً ومعيشياً عاد بالبلاد إلى فترة ما قبل القرون الوسطى، وتطاحناً عسكرياً غير واضح المعالم بين مليشيات عراقية وأجنبية وأميركية، وتراجع مصداقية الولايات المتحدة بشكل كبير بسبب حرب عارضتها معظم دول العالم. بداية يجب الاعتراف بأن الولايات المتحدة تتحمل مسؤولية الأوضاع المتردية في العراق حالياً في جميع المجالات، وعليها عبء مادي وآخر أخلاقي حيال هذا الأمر، لأنها وقعت في سلسلة مركبة ومتراكمة من الأخطاء، بعد التخلص من نظام الطاغية صدام حسين، كما أسهم المجتمع الدولي بصمته ورفضه الكلامي فيما آلت إليه الأمور هناك، حيث كان من الأجدى أن يشارك بفعالية في بناء جسور المصالحة الوطنية من جانب، ويسارع إلى تخفيف معاناة العراق وترسيخ الاستقرار والسلم فيه. وقد أجمع كتاب التقرير على أنه ليس في وسع الولايات المتحدة أن تفعل شيئاً يُذكر لتحقيق هذه الأهداف، ما دامت تحتفظ بوجود عسكري لها في العراق إلى أمد غير معلوم، لذلك أكد التقرير على ضرورة انسحاب القوات الأميركية من العراق، في ظل حماية من المجتمع الدولي وتواجد ميداني لقوات من الأمم المتحدة، واقترح التقرير مجموعة من المبادرات التي يمكن أن تساعد -إذا أُخذت وفق الترتيب والتسلسل المناسب- على خلق الظروف الملائمة لإنهاء الكابوس الطويل الذي يفتك بالعراق، ومن أهمها: إرسال رسائل إلى جميع جيران العراق، ومنهم سوريا وإيران، بأنه من الآن فصاعداً سيتم التعامل معهم على أنهم شركاء في إرساء الاستقرار، ودعم إنشاء مجموعة مساندة دولية للعراق، والبدء على الفور في التعامل مع سوريا وإيران وفق دبلوماسية تقوم على "الأخذ والعطاء" وتخلو من القوة والإكراه، لمعالجة القضايا الثنائية ذات الاهتمام المشترك، وأن يشارك كل من الأردن والسعودية وتركيا في تعزيز جهود إرساء السلام وإنقاذ الاقتصاد في العراق، والتمهيد لقدوم قوة حفظ السلام من ذوي القبعات الزرق (الأمم المتحدة) التي سيحتاجها العراق وسيطلبها عندما ينسحب الأميركيون، ودعم خطة لتمويل توطين اللاجئين في بلد ثالث. الخلاصة أنه يجب على الولايات المتحدة أن تسرع في تنفيذ الانسحاب العسكري الكامل من العراق؛ وأن تستخدم بحذر الأساليب الدبلوماسية لمعالجة الأزمة العراقية؛ وأن تنفق بسخاء للمساعدة على إعادة بناء العراق على المدى الطويل، وهذه المسؤوليات ليست على عاتق الولايات المتحدة وحدها، ولكن يجب على الولايات المتحدة أن تكون في طليعة من يتحملون العبء. وقد تزامن مع الدراسة السابقة، إصدار معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، في نهاية يونيو 2008 أيضاً، دراسة بعنوان "تقوية الشراكة: كيف يمكن تعميق التعاون الأميركي-الإسرائيلي بشأن التحدي النووي الإيراني؟"، وهي عبارة عن مناشدة لرئيس الولايات المتحدة ببدء حوار قومي مع الشعب الأميركي بشأن التحديات والمخاطر والمعضلات التي تواجه المصالح الأميركية من جراء احتمال حصول إيران على قدرات عسكرية نووية، والسبل الكفيلة بمنع هذا الاحتمال، وأن تقوم الولايات المتحدة وإسرائيل بإنشاء منتدى رفيع المستوى، يُعنى بتنسيق الاستراتيجيات والسياسات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية الكفيلة بمنع حصول إيران على سلاح نووي. وعلى الرغم من أن الدراسة الأولى توصي بالتعاون مع إيران من أجل العراق، فإن الثانية توصي بالضغط القهري على إيران لمنعها من امتلاك سلاح نووي. وهنا قد يرى البعض وجود تعارض بين التوصيتين، لكن الواقع يشير إلى خلاف ذلك، لأن المصالح هي الحكم الوحيد في طريق العلاقات، مما يعني وجود مقاصة أو اتفاق ما سيضمن تحقيق التوصيتين، وفي هذا يقول الرئيس الإيراني إن قنوات الحوار ستكون مفتوحة مع الجانب الأميركي، وهي القنوات التي أغلقها تماماً المرشد الأعلى للثورة! لكن ما يهمنا هنا هو الشأن العراقي، حيث تدور على أرض العراق حالياً مجموعة من التحركات السياسية والدبلوماسية والعسكرية والأمنية تدفع في اتجاه تهيئة الوضع لإعادة انتشار القوة الرئيسية للقوات الأميركية في العراق داخل القواعد التي أقرها وأشرف على بنائها دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الأميركي السابق، أما باقي القوات فستنسحب إلى قواعدها في الولايات المتحدة الأميركية، ومن ثم يسقط العراق في يد حكومة المالكي الطائفية، ليصبح ألعوبة في يد بلاد فارس مقابل النووي. ما الذي يحدث الآن للعراق وفي العراق؟ محاولة تمرير الاتفاق الأمني بين بغداد وواشنطن، كجزء من المعاهدة الاستراتيجية بين الاثنتين، خاصة أنها تسمح ببقاء القوات الأميركية في العراق دون سقف زمني، وأن تملك حرية الحركة الكاملة والعمل العسكري على أرض العراق دون الرجوع إلى الحكومة العراقية، وإعطاء القوات الأميركية الصلاحيات بإلقاء القبض وملاحقة عراقيين واعتقالهم، واستثناء القوات الأميركية من تطبيق أي قانون عراقي، الخلاصة أن "الولايات المتحدة الأميركية تريد أن تحكم العراق دون أن تتحمل أعباء هذا الحكم وتداعياته". وإذا كنا نسمع اليوم عن اعتراض حكومة المالكي على هذا الاتفاق بزعم تجاوزه لمرتكزات السيادة العراقية، فإن الغد القريب سيشهد الاحتفال الأسطوري بتوقيع هذا الاتفاق وفق تعديلات لن تؤثر في جوهره في ظل حاجة الحكومة الطائفية إلى الظهور بمظهر الحرص على مصالح الدولة العليا من جانب، وسرعة التفرغ لإتمام اتفاقاتها مع إيران من جانب آخر، لذلك ربما تكون الصيغة النهائية للدولة العراقية هي اقتسام السلطة بين طهران وواشنطن، الأولى تحكم ولا تملك، والثانية تملك النفط وتتحكم فيه، بينما شيعة العراق سيكونون وكلاء لمن يحكم، أي يملكون ولكن لا يحكمون. أما الحدث الآخر المهم الذي يجري على أرض العراق وسيؤثر بشدة في مستقبله السياسي، فهو "قانون انتخابات مجالس المحافظات"، حيث تجري محاولة مستميتة من الكتلة الكردية في البرلمان العراقي للحفاظ على سيطرة الأكراد على مدينة كركوك ورفضهم التام لأي حل توافقي يقسم المدينة إلى مناطق انتخابية وفق القوميات الرئيسية فيها، أي العرب والتركمان والكرد، لعدم اعترافهم بوجود قوميات أخرى بخلاف الكرد الذين سعوا منذ نحو خمس سنوات إلى تغيير ديموغرافية المدينة لصالحهم لفرض الأمر الواقع على المدينة، وهذا يثير تساؤلاً مهماً حول مستقبل العلاقات بين القوميات الرئيسية التي تشكل موزاييك التركيبة السكانية للمواطنين العراقيين، في ظل تعرض بعضهم للترحيل والهجرة القسرية لتحل بدلاً منهم قومية أخرى. يبقى الوضع الأمني الداخلي المتدهور في العراق، والذي دفع معظم وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة الى أن تتعايش معه على أنه قضاء الله، وباتت لا تهتم كثيراً بما يحدث للعراق وفي العراق، وهذا الأمر له أيضاً تداعياته الكارثية لأنه يؤطر لرأي عام عربي يقبل بوجود فلسطين أخرى ويكرس عملية استمراء النكبة سواء لدى العراقيين أو لدى العرب. من المؤكد أن العراق وشعبه لم يهونا بعدُ على العرب، وما زال ثمة أمل في تدارك الوضع المتردي هناك من خلال وقفة عربية حاسمة تدفع في اتجاه المصالحة الشعبية من ناحية، والحد من التدخل الخارجي من ناحية أخرى، وجعل المصلحة العليا للوطن العراقي هي أساس أي تسوية.