ما يزال الجدال ناشباً بين أعضاء اللجنة المكلفة بصياغة البيان الوزاري لحكومة الوحدة الوطنية في لبنان. فقد اجتمعت اللجنة للمرة الثامنة، وكل اجتماع لا ينفض قبل أربع ساعات على الأقل، وما يزال الخلاف هو نفسه إصرار جماعة "8 آذار" -حزب الله وحلفاؤه- على التنصيص في البيان حول حق المقاومة في الاستمرار على سلاحها حتى تحرير الأرض (أي مزارع شبعا). وترد الجماعة الأخرى: بل ننص على حق لبنان في تحرير أو استعادة أرضه بشتى السبل والوسائل، بما يتلاءم مع القرارات الدولية، وآخرها القرار رقم 1701. وفي كل يوم، تنشر غالبية الصحف اللبنانية -والغالبية هذه موالية لحزب الله- وتذيع وسائل الإعلام المرئية -وغالبيتها أيضاً موالية للحزب أو لسوريا أو لهما معاً- أن السنيورة إنما يريد تضييع النصر الذي تحقق في حرب يوليو 2006، وتحقق في عملية تبادل الأسرى، وترد أوساط رئيس الحكومة بالتهديد بأنه إن لم تتوقف التسريبات المنحازة من الجلسات؛ فإنه سيعمد لنشر المحاضر لتبيان الحقيقة كاملة. والحقيقة أنه منذ اجتياح بيروت يومي 7 و8 مايو من العام الجاري، بدأ مسار انطلق من اجتماع الدوحة لفُرقاء النزاع، وما تزال التداعيات متوالية وجارية. فقد حصل تحالف "حزب الله" في الدوحة على أمرين: حكومة الوحدة الوطنية ذات الثلث المعطل، والقانون الجديد للانتخاب. ومزوَّدين بهذا الاستثمار السياسي للانتصار العسكري على سكان بيروت، عاد تحالف الحزب إلى بيروت وبدأت المماحكات بشأن تشكيل الحكومة، واستمرت عملية التشكيل شهراً ونصف الشهر، وحصل فيها الجنرال عون على معظم ما طلبه. وحاول الرئيس السنيورة إيقاف هذا التداعي بعد فوات الأوان، فرفض توزير علي قانصوه رئيس الحزب القومي السوري السابق، بحجة أن حزبه دخل مع "حزب الله" إلى بيروت بالسلاح وقتل وأحرق وسائل الإعلام. وقيل له من جانب تيار الأكثرية -خاصة جنبلاط والحريري: من شرب البحر لا يغصّ بالساقية، فقبل الرجل بعلي قانصوه. لكن خلال الأخذ والرد استمرت أو تجددت الاضطرابات في طرابلس، وسقط خلالها مدنيون في باب التبانه. والآن وعلى وقْع الجدالات بشأن بند المقاومة في البيان الوزاري، عاد مسلحو جبل مُحْسِن للقنص على مدينة طرابلس، وسقط ستة مدنيين. وبذلك صار معروفاً أن كل تردد للسنيورة، في أي شيء، يُواجَهُ أولاً بالضغط عليه من خلال قادة الأكثرية (وبخاصةٍ جنبلاط والحريري)؛ فإن لم ينجح ذلك لعدم اقتناع القادة، أو لعدم اقتناع السنيورة، تشتعل بطرابلس ويسقط الناس صرعى، فيتوقف السنيورة عن الاعتراض، ويتقدم استيلاء الحزب وحلفاؤه على القرار السياسي، بعد القرارين الأمني والعسكري. ولدى الحزب وأنصاره منطق، ولدى أهل الأكثرية منطق آخر، ولدى المدنيين منطق ثالث. منطق الحزب وأنصاره أنهم انتصروا، وينبغي أن يحصلوا على الثمار السياسية للانتصار. ومنطق الأكثرية أن "الدوحة" أصرت على أمرين وقد تحققا، وذكرت أمراً ثالثاً، وهو لم يتحقق، ولا ضمانة لإمكان تحققه. الأمران اللذان تحققا: تشكيل حكومة الوحدة، وقانون الانتخاب. أما الأمر الذي لم يتحقق فهو عدم استخدام السلاح بالداخل، وعدم استثمار استعماله سابقاً للحصول على مكاسب سياسية. وما يزال مسلحو الحزب وحلفاؤه موجودين في شوارع بيروت متخفين جزئياً، وكذلك في البقاع الأَوسط. وهم يطلقون النار على مدينة طرابلس بشكل شبه يومي، وفي لعبة مكشوفة لإرهاق السنيورة والأكثرية ودفعهما لمزيد من الخضوع، والتسليم باستمرار سلاح الحزب ودويلته إلى أبد الآبدين. والواقع أن هناك أمراً رابعاً لا تستطيع الأكثرية تجاهله، وإلا خسرت كل شيء مرة واحدة. فالحزب وحلفاؤه مصرون على أن يكون البيان الوزاري الثاني هذا، مثل البيان الذي صدر عشية تشكيل حكومة السنيورة الأولى قبل حرب يوليو 2006. وقد استجدت متغيرات كثيرة أهمها حرب يوليو، والتي انتهت بصدور القرار 1701، ودخول الجيش اللبناني بالتعاون مع القوات الدولية إلى الجنوب حتى الحدود مع فلسطين المحتلة. ويضاف إلى ذلك أن القرار المذكور فتح أفقاً لحل مشكلة مزارع شبعا بجلاء القوات الإسرائيلية عنها، ووضعها في عهدة القوات الدولية تمهيداً لإعادة السيادة اللبنانية عليها. وإذا أضفنا لذلك أيضاً أنه لم يعد للبنان أسرى لدى إسرائيل؛ فإن المقاومة أو سلاحها يبدوان بدون مسوغ، فتنفتح التخمينات بشأن ماهية أهداف "حزب الله" من وراء تكويم هذه الترسانة الضخمة من السلاح. وتتحول التخمينات إلى شكوك وهواجس واتهامات بعد استعمال الحزب لسلاحه المقاوم في بيروت والجبل الدرزي. وهكذا فإن التسليم بسلاح الحزب بعد انتهاء المقاومة، يعني الاعتراف بوصاية دويلة الحزب، على دويلة لبنان، كما كان الأمر مع السوريين، وقد قال رئيس الجمهورية الجديد: إننا نحاول استعادة مزارع شبعا بالدبلوماسية والقرارات الدولية، وإن فشلنا فسنلجأ للقوة. لكنه عندما ذكر القوة، فهو لا يعني بها مقاومة "حزب الله"، بل قوة الثلاثين ألف جندي المتمركزين في الجنوب. وقد حاول الرئيس السنيورة وقادة "14 آذار" دائماً الفصل بين مسألة بسط الدولة سلطتها على الأرض من خلال قوتها الشرعية النظامية، وبين سلاح "حزب الله". وقالوا دائماً إن انتهاء المقاومة، لا يعني تلقائياً نزع سلاح الحزب، فمن يملك القدرة على ذلك؟! بل إن سلاح الحزب يخضع مصيره للحوار الوطني الذي سيترأسه رئيس الجمهورية بالقصر الجمهوري بعد حصول الحكومة على ثقة مجلس النواب. لذا، واجتناباً للمأزق، فقد طالب الرئيس السنيورة في نقاشات البيان، بترحيل الموضوع الخلافي أو الموضوعات الخلافية إلى الحوار الوطني، لكن الآخرين رفضوا ذلك، وأصروا حتى الآن على شرعنة سلاحهم في البيان الوزاري. وكأنما المراد أن يصل الفرقاء إلى القصر الجمهوري للحوار وقد جرى بت كل شيء أو الحصول عليه وحسمه قبل انعقاد مؤتمر الحوار، وبذلك تكون "السياسة الدفاعية" التي يقول الحزب إنه يقبل النقاش فيها، تعني ضرورة تقوية الجيش لكي يكون قادراً على ردع إسرائيل. لكن في الوقت نفسه يستمر الحزب على سلاحه حتى يقرر هو نفسه أن استعداد الجيش لمواجهة العدو صار مقبولاً. وقد يستغرق ذلك سنوات. وهنا يأتي منطق الفريق الثالث، فريق المواطنين والمدنيين. وهؤلاء ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: المتحزبون لـ"14 آذار"، والمتحزبون لـ"حزب الله" وحلفائه، وغير المعنيين والذين سيطر عليهم القَرَف وما عادوا يتابعون تفاصيل النزاع. المتحزبون لـ"14 آذار" ساخطون، لكنهم محبطون أيضاً مما آلت إليه الأَمور. والمتحزبون لـ"حزب الله" وحلفائه، يعتقدون أنهم انتصروا، وأن إصرارهم على خط السيد حسن وولاية الفقيه، سيجلب لهذا النهج مزيداً من الانتصارات في الداخل والخارج، وشاهدُهم ما تحقق بعد احتلال بيروت، وإنشاب الاضطراب في أنحاء مختلفة من لبنان؛ وخاصة بين السنة والشيعة. أما الفئات المحايدة أو غير الحزبية، فتبدي انزعاجها الشديد من سائر المسلحين. لكنها منزعجة أيضاً لتردد تيار "14 آذار" في التسليم لإنهاء الضغوط والاستضعافات. لا شك أن الاضطراب الأمني، وقَرَف الناس من أحداث العنف، يصب في غير صالح فريق "14 آذار"، وإن يكن المواطنون يعلمون أنه لا ذنب لهذا الفريق في المآسي الحاصلة. فالناس يريدون الخلاص، ويشعرون أن الاضطراب سيهدأ إذا وافق السنيورة وحلفاؤه أخيراً على ما يريده "حزب الله" وسوريا في البيان الوزاري. إن اجتماع الدوحة ليس حدثاً عابراً، بل هو مسار بدأ باجتياح بيروت، ولن تنفد أهدافه واستهدافاته بالحصول على نص في البيان الوزاري يشرعن سلاح "حزب الله"، بمقاومة أو بدونها. ولأن هذا المسار بدأ بالقوة والدم، فسيظل الدم وسفكه أحد وسائله في تحقيق المكاسب واستعجال الأهداف. ولا حول ولا قوة إلا بالله.