في أقل من شهر صدرت عن شمال العالم الصناعي المسمى "متقدم"، أربع مبادرات تجاه العالم النامي عموماً والعالم العربي جزء منه. هناك مبادرة مؤتمر الدول الصناعية الثماني في اليابان، ومبادرة من جانب الاتحاد الأوروبي بقيادة فرنسا باسم "الاتحاد من أجل المتوسط". ثم هناك مبادرة من جانب الاتحاد الأوروبي نحو إيران لإنهاء أزمة الملف النووي. ويرتبط بهذا الملف الموقف من الصراع العربي الإسرائيلي ومن ثم زيارة رئيس الوزراء البريطاني لتل آبيب ورام الله. وأخيراً هناك مبادرة من مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية باتهام الرئيس السوداني بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية. وترتبط بذلك أيضاً جهود إصدار قرارات من جانب مجلس الأمن بفرض عقوبات على نظام موجابي بتهمة تزوير الانتخابات العامة في زيمبابوي. وفوق ذلك هناك عشرات الزيارات والاتفاقيات الثنائية والمؤتمرات والقرارات الدولية. وأهم هذه المؤتمرات على الإطلاق فيما يخص العالم النامي، مؤتمر منظمة التجارة الدولية في إطار "جولة الدوحة"، والتي تستهدف تحرير التجارة على مستوى العالم. لكن هذا المؤتمر متعثر وقد يستغرق، كما حدث في جولة أوروجواي، أكثر من عشر سنوات. السؤال المحير: ما هي الرسالة النابعة من هذه المبادرات مجتمعة؟ وقد نصوغ كالتالي: هل هناك إطار جديد لسياسات دول الشمال تجاه العالم العربي تحديداً، والعالم النامي ككل؟ من الناحية الشكلية هناك شيء جديد يمثل تحولاً مهماً في أداء النظام العالمي نحو العالم النامي ككل. فقد انتهت شكلياً على الأقل مرحلة السياسات الانفرادية الأميركية التي تجسدت بأسوأ أشكالها في الغزو الأميركي للعراق عام 2003. واضطرت إدارة بوش للتخلي عن محاولة فرض مبادراتها الانفرادية على حلفائها الأوروبيين وفي مناطق أخرى، وذلك بعد موجة الانتقادات العنيفة التي حذرت واشنطن من استمرار هذه السياسة المدمرة. وقد أشار تقرير "بيكر -هاملتون" إلى أن هذه المواقف الانفرادية غير حكيمة لأن الولايات المتحدة لم تعد القوة الوحيدة وعليها أن تحترم القواسم المشتركة للمصالح مع حلفائها, كما أن هذه السياسات قد تقود لانهيار "تحالف الأطلسي" بالمعنى الواسع للكلمة أي الصلة العضوية بين أوروبا وأميركا. لكن أوروبا القديمة والجديدة معاً أحدثت تعديلاً كبيراً من جانبها في موقفها من أميركا. فرغم كل النقد الشعبي المؤكد، ورغم النفور الأوروبي الفعلي من السياسة الأميركية الانفرادية، فهناك مسعى مقصود للتقارب ينطوي على الاعتراف بدور أوروبي أقل في إنتاج وتدوير وإشاعة الأفكار وفرض الأقدار مقارنةً مع أميركا. هذه النتيجة المزدوجة انعكست بوضوح على الرسالة التي يمكن استنتاجها من المبادرات الأربع الكبرى التي نتحدث عنها. لكن ما هي هذه الرسالة؟ لسنا متأكدين تماماً، لأنها تبدو متناقضة ومرتبكة إلى حد ما. ويمكن تلخيصها في عدد من الأركان، يتعلق أهمها بإخضاع العالم النامي ككل والعالم العربي خاصة لنوع من "الإشراف الجماعي". وقد نسمي هذا التوجه استعماراً جديداً أو إمبريالية عليا أو نظام وصاية جديد أو أية تسمية أخرى، ويبقى جوهره محدداً إلى درجة كبيرة. فهناك رسالة كبرى موجهة للعرب، ومفادها أنه "لم يعد من المسموح أن تفعلوا كل ما يحلو لكم، لا في بلادكم ولا خارجها". ولا شك أن أقوى إنذار من دول الشمال كان قرار الاتهام من المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بحق الرئيس السوداني حول دارفور، ومشروع قرار فرض عقوبات على رئيس زيمبابوي وأعوانه. ويشير تزامن القرارين إلى ضعف نظرية "استهداف" العالم العربي بمعاملة خاصة وضيعة. فإن كان هناك استهداف فربما يتسع للعالم العربي وأفريقيا أو للعالم النامي ككل. لكن نظرية أو سياسة الكيل بمكيالين لا زالت مؤكدة. فالرئيس الأميركي نفسه والساسة الإسرائيليون، وعلى رأسهم أولمرت وباراك، ارتكبوا جرائم حرب ولم يوجه المدعي العام المذكور لأي منهم اتهاماً واحداً! كما أن رؤساء أفارقة كثيرين يزورون الانتخابات، وبصورة أشنع مما فعله موجابي، ومع ذلك لم توجه إليهم تحذيرات ولم يتعرضوا لعقوبات. إن التوجه نحو بناء نظام جديد للوصاية الدولية الجماعية لا يمكن أن يكون مماثلاً للنظام القديم. ولا يمكن لهذا النظام أن يكتفي بالعقوبات التي عادة ما تتسبب في إيذاء الشعوب. وتجربة فرض الحصار على العراق لا زالت ماثلة في لأذهان بنتائجها المدمرة. لهذا كسب الأوروبيون نقاطاً بأن فرضوا على الأميركيين تبني مدخل ناعم أيضاً يتحدث عن "حوافز" و"مساعدات"، أي الركن الثاني للتوجهات الجديدة. أهم هذه الحوافز قُدمَ باسم الحزمة الإيجابية، وتقوم على فكرة تقديم العون لإيران إن أوقفت مساعيها النووية وفقاً لنظام ضمانات في استخدام التكنولوجيا النووية للأغراض السلمية فقط. والواقع أن ما لم تذكره الحزمة هو الاعتراف بدور إيراني كبير في العالم العربي وشمال آسيا. لم يقل الأوروبيون ذلك، لكنه ورد ضمناً في المباحثات الثنائية بين أميركا وإيران في بغداد. كما أنه المعنى الأساسي لعمليات تهدئة واضحة في العالم العربي وتحديداً في لبنان بعد اتفاق الدوحة. وينتظر الغرب رداً "لا لبس فيه" من إيران خلال أسبوعين لتقرير ما إذا كان سينتقل من الحوافز إلى تشديد العقوبات بعدما قدم هذه الحوافز رسمياً في مباحثات جنيف الأخيرة التي حضرها الأميركيون بتمثيل عال. جانب أساسي من الدروس التي استوعبها الشمال أو الغرب هو التوقف عن المبالغة في تسييس وعسكرة العلاقات مع الجنوب أو العالم النامي. وفيما يبدو فإن الدرس المؤلم لأميركا وبريطانيا في العراق، والدرس الأشد إحباطاً للشمال كله في أفغانستان، كان ملهماً للغاية في "تعليم الحدود" التي قد يذهب إليها مشروع بناء نظام جديد للوصاية. ومن الواضح الآن أن المقاربة العسكرية لا تجدي كثيراً مع شعوب يائسة ومتعلقة تعلقاً شديداً بهوياتها الدينية والوطنية والعرقية. لذلك جاء مضمون الرسالة أيضاً بتعميم وتركيز أشد على المقاربة الشاملة والأجندة البيئية والاجتماعية والاقتصادية. ففي مؤتمر الدول الصناعية الثماني حظيت البيئة لأول مرة باهتمام أميركي نسبي مع بقية الدول الموقعة على اتفاقية "كيوتو". كما قدمت مبادرات بإنفاق مبالغ، ولو متواضعة، على مناهضة الأمراض الوبائية في أفريقيا. أما مؤتمر "الاتحاد من أجل المتوسط" فجاء أكثر قوة من حيث القرارات وربما أقل قوة من حيث الإتاحة المالية لمشروعات تبدو طموحة تبدأ من "غسيل" البحر المتوسط حتى "تجفيف" منابع الإرهاب و"عصر" المهاجرين غير الشرعيين, و"نشر" مصادر الطاقة البديلة. لكن الفضيحة الحقيقية في هذه الرسالة أن الشمال أو الأطلسي، أو سمه ما شئت، لا زال ينفق على حروبه في العراق وأفغانستان أضعاف أضعاف ما خصصه لمقاومة الأمراض واسترداد السلامة الاقتصادية لأفريقيا ولأعمال إعادة البناء رغم أن نتائج المقاربة العسكرية مشكوك فيها بقوة من جانب خبراء الأطلسي أنفسهم. ولو أن الأطلسي أنفق ربع تكاليف حربه في أفغانستان على البناء الاقتصادي لكان كسب هذا البلد إلى صفه بدون تردد. الفضيحة هي أن الحروب مطلوبة في ذاتها... أحياناً... وربما في العالم العربي تحديداً.