يُمعن عدد غير ضئيل من الكُتّاب والباحثين والمثقفين العرب المعاصرين، في الإبقاء على منظومة الأسئلة الكبرى، التي تجد مرجعيتها في المرحلة التاريخية الممتدة من "عصر النهضة العربية الحديثة" إلى تخوم العصر العولمي الراهن؛ وهي، كما يُلاحظ، مرحلة طويلة تغطّي أكثر من قرنين من الزمن. والمعْني من منظومة الأسئلة المذكورة تلك الركائز الفكرية والسوسيوثقافية العامة، التي تمخضت عن المشكلات التي واجهها النهضويون العرب قبل تدفّق الغرب باتجاه بلدانهم (خصوصاً حتى العِقد الأخير من القرن الثامن عشر). وقد يكون السؤال الذي لخص موقفهم من الغرب بعد تماسّهم به من موقع طموحه لقهرهم، قد تأسس على النحو التالي وبمقاربات متعددة قدمها أمثال محمد عبده وشكيب أرسلان وعبدالرحمن الشهبندر: لماذا الغرب متقدم، ونحن متخلفون؟ وإذا كان سؤال التقدم ذا طابع كثيف في الفكر العربي في المرحلة النهضوية المذكورة، فقد راح مثقفو هذه الأخيرة يلامسون أهمية بل خطورة سؤال آخر تمثل بـ"الحرية" بمثابته شرطاً للإجابة على سؤال التقدم، وبذلك، ظهر الأمر المتصل بمنظومة الأسئلة النهضوية بوصفه الإطار، الذي ضبط المرجعية الفكرية للنهضة العربية الحديثة. ومع تبلور هذه المرجعية على مدى عقود مديدة، أخذت تُفصح عن نفسها حدودها وآفاقها المستقبلية: حدودها بين سؤاليْ التقدم والحرية، وآفاقها المستقبلية المفتوحة ضمن إمكانيات "التملّص"، بقدر أو بآخر، من قبضة الغرب الغازي، وضمن احتمالات الاستقواء بالداخل العربي الرثّ عبر مشروع وطني "استنهاضي"، لم يصل يوماً إلى وتائره الضرورية في الداخل. وبهذه الصيغة المفتوحة، نشأت حركة الاستقلال الوطني لمجموعة من البلدان العربية، وذلك في إطار حركة متصلة من التقدم والتراجع، كان لهذا الأخير فيها الحضور الأوفى: كان الأفق العربي مفتوحاً حتى عصر العولمة، انطلاقاً من العقد الأخير للقرن العشرين، وكان كذلك مغلقاً، في آن واحد. وبتعبير آخر، كان الزمن العربي ما قبل العولمي يتحرك وفق القول الشهير: خطوة إلى الأمام، وأربع خطوات إلى الوراء. ذلك الوضع العربي العاثر، ولكن القابل لتمرير خطة تنموية تُخفق لتأتي بعدها خطة أخرى، هكذا ضمن حقل تجريبي شبه مفتوح، نقول: ذلك الوضع راح يجد نفسه مرغماً للدخول في "زمن كوني جديد" على أنقاض "زمن وطني محلّي". لقد أتى العصر العولمي ليُحدث انقلاباً هائلاً في مجموعة من المفاهيم العقدية، يبرز منها الزمن والمكان والكون والاتصال والانفصال والتاريخ والتقدم والهوية والثورة والنهضة، وغيرها. وكان لثورتي المعلومات والاتصالات في ذلك دور ذو أهمية خاصة. وبكيفية خاصة، صرنا شاهدين على عصر انهزام الزمن المفتوح نسبياً والمتباطئ والقابل لاستيعاب احتمالات متعددة، لصالح بروز الزمن العولمي، الذي راح يضع البشرية على حد السيف وأمامه في عملية إنجازها لمهماتها، وفق السؤال الجديد الكبير: هل تستطيع أن تنجز مهماتك المعلقة والجديدة اليوم، وليس غداً؟ أمّا اليوم وليس غداً، فلأمرٍ يندرج في الإطار العولمي الجديد، هو إن ما عليك أن تنجزه، لم يعد الزمن يحتمله إلى "ما بعد" اليوم. من هنا، جاءت بعض الأفكار، التي يطرحها ثُلة من الباحثين والكتّاب العرب على صعيد "الفعل العربي" الراهن، وهي تُعاني من بعض القصور المعرفي. وهذا ما يُفصح عن نفسه مثلاً لدى دلال البزري (لبنان) في بحث لها منشور في دار الجديد عام 1994 بعنوان: (جرامشي في الديوانية، في محل "المجتمع المدني" من الإعراب، ص36). تقول الباحثة: "إن مجتمعاتنا تحتاج عند مقاربتها التحديث- مِمّا يُملي على المثقف، التخلص من عقدة "ما العمل؟" المستبِدّة به- حرية لا يهددها الغموض والالتباس والفوضى، ولا الاستعجال إلى لعب دورٍ ما، بحجة ضمور فسحة الأمل". إن القول بتجنّب "الاستعجال" في إنجاز مهماتنا الراهنة، يستدعي ضبطه في سياق ما جدّ على صعيد الانتقال من الزمن ما قبل العولمي إلى الزمن العولمي ضمن الواقع العربي. وإذ ذاك، يمكن أن تتضح الضرورة القصوى لجعل "الزمن" إلى جانب "النوعية"، معيارين منهجيّين حاسمين في مواجهة الزمن العولمي على نحو "إيجابي". وذلك مما يشترط الانطلاق بدقة وعمق، من ثلاثية الزمن الأقصر والكلفة الأقل والنوعية المثلى.