لقد أصبحت الترتيبات الأمنية البعيدة المدى، بين الولايات المتحدة الأميركية والعراق، إحدى أكثر الخطط عرضة للنقد والاستهداف. لكن من شأن اتفاق كهذا- يعتقد البيت الأبيض أن في الإمكان إبرامه خلال الشهر الجاري، على إثر اتفاق الطرفين على تحديد أفق زمني عام للبدء في خفض عدد القوات الأميركية في العراق- أن يسهم في تقديم أفضل خدمة ممكنة لمصالح الدولتين وشعبيهما، في منطقة تعد الأشد حاجة للأمن والاستقرار في عالم اليوم. ويتوقع للتفويض الصادر من مجلس الأمن الدولي، والذي يسمح لقوات التحالف بمباشرة عملياتها في العراق أن ينتهي بنهاية العام الحالي. بيد أن التوقيت الزمني ليس هو العامل الأهم الذي يدفع الولايات المتحدة لإبرام اتفاق أمني طويل الأمد مع العراق. ذلك أنه ينبغي استثمار الفرصة التي وفرها تحسن الوضع الأمني على الأرض، قبل أن يتسرب ما تم إنجازه في هذا المجال، بين رمال النزاعات الشرق أوسطية المتحركة. لكن وقبل الاستطراد في الحديث عن مدى أهمية هذا الاتفاق، علينا أن نتساءل أولاً: هل تتعارض مصالح الشعبين الأميركي والعراقي؟ لا أعتقد ذلك من ناحيتي. فخلال الأعوام التي قضيتها بصفتي قائداً عاماً لجميع القوات الأميركية في الشرق الأوسط، أستطيع القول إنني التقيت بجميع العراقيين بمختلف ألوانهم ومواقفهم وانتماءاتهم. وقد خرجت بانطباعات جد قوية عن العراقيين الذين التقيتهم، بدءاً برئيس الوزراء، مروراً بالشخصيات والقيادات الدينية، ثم حكام المحافظات والجنرالات، نزولاً إلى رجل الشارع العادي في شوارع بغداد وغيرها من المدن والضواحي الريفية. ومما استقيته من المناقشات التي دارت بيني وهذه الشخصيات جميعاً، أن القاسم المشترك بين أميركا والعراق، هو بسط الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط عموماً، ومنها العراق بالطبع. كما يتفق الطرفان الأميركي والعراقي أيضاً على ضرورة انتقال إدارة البلاد والحفاظ على أمنها إلى العراقيين أنفسهم. ويقيناً فإن انسحاب غالبية القوات الأميركية المرابطة حالياً في العراق، بأسرع وقت ممكن، يمثل أولوية قصوى لا غموض فيها. هنا نطرح سؤالاً آخر: لمَ يبدو تحقيق هذه الأهداف الواضحة أمراً في غاية الصعوبة؟ في اعتقادي أن حالة الوهن التي اعترت الحرب الدائرة في العراق، هي العقبة الرئيسية أمام تحقيق الأهداف إياها. ذلك أن الحرب قد تباطأت وجرجرت أذيالها طويلاً، إلى درجة سئمها الناس، فلم يعودوا يرون منها سوى وجهها الكالح وسلبياتها الكثيرة، حاجبة عنهم بذلك رؤية التحسن الكبير الذي طرأ على الوضع الأمني في العراق اليوم، وهو وضع جد مختلف عما كان عليه قبل بضعة أشهر فحسب. وإلى جانب هذه العقبة، يبرز تحد آخر، يتمثل في الميل المستمر إلى النظر إلى كل ما له صلة بالعراق بمنظور الاستقطاب السياسي الحاد القائم على: الرفض أو القبول، البقاء والخروج والأبيض والأسود. على أن النظرة العقلانية الأكثر حكمة وموضوعية، هي التي يرجح لها أن تصب في خدمة المصالح المشتركة بين البلدين والمنطقة بأسرها. وهناك جانبان للترتيبات الأمنية المشتركة، اقترحهما الاتفاق المزمع إبرامه بين الجانبين. يتعلق أولهما بـ"وضع القوات" وهو عبارة عن خطة تفصيلية للإجراءات، والحماية القانونية التي تحكم وجود قوات عسكرية أجنبية في أراضي دولة أخرى. أما الوجه الثاني من الاتفاق، فيتعلق بالتوصل إلى اتفاق حول إطار استراتيجي عام رفيع المستوى، يضع الطرفان بموجبه المبادئ العامة الموجهة لدور كل منهما في الترتيبات الأمنية البعيدة المدى في العراق. وينصب تركيز هذا الجزء الأهم من الاتفاق الثنائي بين البلدين، على قضايا السياسات الرئيسية، مثل دور ومهام كل طرف من الطرفين في المجال العسكري، التحكم بالقوات في شتى الأوضاع والظروف الأمنية، الإجراءات الخاصة بالمعتقلين، إضافة إلى انتقال المهام الأمنية من الأميركيين إلى العراقيين. وما أكثر الاعتراضات والمعترضين على هذا الاتفاق. فمن الجانب الأميركي، هناك من يعتقد أن الاتفاق الأمني المقترح، سوف يقيد أميركا بالتزام مفتوح إزاء الدفاع عن الأمن العراقي في وجه أي تهديدات خارجية يتعرض لها، ما يعني استمرار استنزاف العراق للموارد الأميركية على رغم مظاهر الضعف البادية على الاقتصاد القومي. كما تشمل انتقادات هؤلاء للاتفاق، القول بتعارضه مع الصلاحيات الرئاسية التي منحها الكونجرس للرئيس، استناداً إلى نصوص الدستور الأميركي. ومن الجانب الآخر، يرى بعض العراقيين أن إبرام اتفاق كهذا، من شأنه إطالة أمد بقاء القوات الأميركية في بلادهم، بما يرمز إليه هذا الوجود من استمرار احتلال بلادهم من قبل دولة أجنبية، وفي ذلك انتهاك صريح لسيادتهم الوطنية. ويعترض هؤلاء وغيرهم في دول المنطقة على إقامة قواعد عسكرية أميركية طويلة الأمد في العراق، ضمن انتقادهم لما يصفونه بنوايا الهيمنة الأميركية على بلادهم. ثم هناك إيران التي تبدي رفضها المستمر لأي ترتيبات أمنية أميركية-عراقية طويلة الأمد، في ذات الوقت الذي تواصل فيه هي دعمها لهجمات المتمردين على القوات في العراق، عن طريق تسليح وتدريب المتطرفين والمجرمين في صفوف الميليشيات الشيعية. لكن ما يُؤخذ على هذه الاعتراضات، أنها ربما تحجب الفرصة الذهبية الوحيدة التي لاحت في الأفق الآن، لتحقيق أهم الأهداف التي تخدم مصالح أغلبية كلا الشعبين الأميركي والعراقي: بسط الأمن والسلام في العالم قاطبة. والشاهد أيضاً أن جزءاً كبيراً من هذه الانتقادات والاعتراضات، منشؤه نقص المعرفة بطبيعة وأهداف الاتفاق المقترح، علاوة على صدوره عن مخاوف لا أساس لها. فعلى سبيل المثال، يُراد للاتفاق الأمني المقترح، أن يحدد طبيعة ومدى الالتزامات المستقبلية، أكثر من كونه يهدف إلى تحديد التزام مفتوح النهايات من جانبنا إزاء العراق. والحقيقة أن بلادنا بحاجة ماسة للقواعد العسكرية في العراق، حتى يتسنى لها تأمين دعم مستوى العمليات العسكرية الجارية الآن، بما أثمرت عنه من تحول إيجابي في الوضع الأمني هناك. يضاف إلى هذا، أن حاجة بلادنا لهذه القواعد سوف تتراجع كثيراً، ما أن تنتقل المسؤولية الأمنية من جنودنا إلى العراقيين. وبدلاً من تفويت هذه الفرصة استناداً إلى مخاوف لا مبرر لها، فإن علينا أن نلتفت إلى ما يمكن أن يحققه الاتفاق من مكاسب تخدم المصلحة الشعبية لكلا البلدين والشعبين. فمن شأن الاتفاق أن يثمر نتائج أمنية إيجابية، شبيهة بتلك التي أثمر عنها العام الماضي، بفضل الجهود والتضحيات الكبيرة التي قدمها الكثيرون ممن حملوا على أكتافهم عبء تطبيق استراتيجية مكافحة التمرد العراقي. وضمن هذه النتائج، انخفضت معدلات العنف إلى أقل من عشرٍ واحد، مما شهده ربيع عام 2007 القريب. وبالقدر نفسه انخفض معدل القتلى بين الجنود الأميركيين إلى أدنى مستوياته طوال السنوات الأربع الماضية، ولا يزال يواصل انخفاضه. أما العنف الطائفي بين شتى الفصائل العراقية المتناحرة، فانخفض هو الآخر إلى معدل غير مسبوق منذ الأيام الأولى التي أعقبت الغزو في عام 2003. ليس ذلك فحسب، بل أظهرت قوات الجيش والأمن العراقين، قدرة غير مسبوقة على تحمل المسؤولية وبسط سيطرتها ونفوذها على بعض أشد مناطق العراق تمرداً ودموية، مثل العمارة، البصرة، الديوانية، ومدينة الصدر. وقد تحقق للقوات العراقية كل هذا التقدم الباهر في الأداء، بدعم ضئيل جداً من القوات الأميركية. وأهم ما تشير إليه هذه التحولات، تنامي ثقة القيادة والجيش العراقيين بقدرتهما. وإلى جانبهما، تولت حكومة نوري المالكي، قسطاً كبيراً من المسؤولية المالية إزاء تمويل العمليات الأمنية الوطنية إذ تسهم بـ3 دولارات من الخزانة العراقية، مقابل كل دولار تنفقه واشنطن على العمليات نفسها، مع احتمال توليها لكامل المسؤولية المالية عن هذه العمليات بحلول العام المقبل، نتيجة لارتفاع عائدات الصادرات النفطية. وعلى الصعيد الاقتصادي، أظهر الاقتصاد العراقي تحسناً كبيراً في الأداء والعائدات، فضلاً عن توقيع كبرى الشركات المستثمرة في مجال النفط، عقودا من شأنها أن تؤدي إلى تحسين البنية التحتية لقطاع النفط العراقي. وتتوق حكومة العراق إلى ممارسة سيادتها الكاملة بالطبع، إلا أنها تدرك أن هذا التحول يتطلب بعض الوقت، حتى تتسنى لها السيطرة الكاملة على الوضع الأمني. وهذه العلاقة الجدلية ما بين الاستقرار الأمني وتحقيق السيادة الوطنية الكاملة، هي ما تغفله الانتقادات الموجهة للاتفاق، وتهدد بإهدار فرصة إبرامه. ويليام جي. فالون ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ قائد سابق للقيادة المركزية الأميركية، وأدميرال متقاعد وزميل حالياً بمركز الدراسات الدولية التابعة لمعهد ماساشوسيتس للتكنولوجيا. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"