قبل فترة وجيزة عندما حمل الرئيس الفرنسي حقيبة "الاتحاد المتوسطي" إلى بعض الدول العربية مروِّجاً لمشروعه، فراهن بعض مثقفي الخمسينيات والستينيات الذين لم تغادر عقولهم بعد تلك الحقبة الزمنية، على أن المشروع مصيره العدم، أو كما يقال إنه وُلد- ميتاً، اعتماداً على بعض الملاحظات الجانبية التي شابت هذا المشروع وبالذات دخول إسرائيل على هذا الخط الأحمر لدى بعض العرب والناصع البياض لدى الغرب أجمع. هناك فعلاً عدمية في رؤية بعض المفكرين أو المثقفين الذين يرتابون على طول الخط في كل مشروع يبادر إليه الغرب مهما كان نفعه، فإن هناك متخصصين في السلبيات يطلُّون برؤوسهم ليلقوا بظلال من الفشل المقدم بين يدي نجاح قد يحرزه الغرب في ساحتنا. والشمَّاعة التي نرفعها دائماً هنا أن "الاتحاد المتوسطي" الجديد يراعي مصلحة الغرب أولاً، ترى بالمقابل هل بادر بعض العرب بطرح آخر يناصر من خلاله مصالحه أولاً وقبل كل شيء؟! لقد طوى "الاتحاد المتوسطي" صفحات المثقفين المتمسكين بما كانت ثوابت في يوم ما إلا أن الزمن تجاوزها، والحراك السياسي الواقعي حوَّلها إلى متغيرات تلاحق أصحاب المصالح من أي دولة كانوا أو انتموا. الحالة العربية الراهنة مع بعض مفكريها تعيش أزمنة ولَّت ولن تعود إلا إذا عادت مياه الأنهار إلى منابعها، هكذا دورة التاريخ كما نوَّه بذلك علامة التاريخ في أوروبا "ديورانت". وقد كان لهذا التاريخ وقعه في كلمة ساركوزي الرئيس الأول لـ"الاتحاد من أجل المتوسط" عندما أشار إلى أن أحد التحديات الكبرى للاتحاد هو كتابة التاريخ على قدم المساواة بين الشمال والجنوب. فالهدف الأسمى لهذا المولود الجديد المهجّن والمطعّم بدول عربية وإسلامية أجمعت على تحقيق السلام والاستقرار، ولا نعرف ما الذي يغضب ويحزن ويزعج بعض المفكرين العرب الذين يصعب إرضاؤهم وقد أدمنوا الرفض من أجل الرفض، فلا بديل يطرح من قبلهم، فالمشاريع العربية تعاني من درجة التجمُّد، والأوروبية عند هذا البعض مُفخَّخة بالمؤامرات وأنواع جديدة من الاستعمار، وهكذا لا نخرج من خلال اعتراضاتهم بشيء إيجابي يمكن البناء عليه. إجماع 44 دولة على الدفاع لإنجاح هذا المشروع "المتوسطي" لا يعد شيئاً ذا بال لدى البعض الذي يتلذذ بسلاح الرفض بنمطية قديمة تحنُّ إلى القول إن علاج أدوائنا السياسية بيد فكر قومي أفضى إلى ما قدّم ولا مجال لإحيائه أو إعادته إلى الحياة من جديد، فللأزمنة المتعاقبة رجال مختلفون في الأداء، فقد يكون الدور اليوم لأمثال ساركوزي الذي أطاعه قومه بلا أدنى تردد. وفي هذا الاتحاد الوليد رئيس عربي أيضاً سيتولى الرئاسة بعد الفرنسي في تجربة هي الأولى من نوعها وفق المسار التشاركي على مستوى العالم. ومع ذلك يعيش هذا الفكر المدمن للرفض ممتعِضاً ومُكفهِّراً، فإلى متى سيستمر في العناد والمكابرة؟ فالعولمة الكاسحة لن تترك لهؤلاء أثراً فيما يصْبُون إليه، وقد يتحولون بعد برهة من الزمن إلى أثر بعد عين. إننا أمام عالم غربي يسارع الخطوات في البناء نحو الأمام سواء كانت مصلحته في المقدمة، وهو حقه الطبيعي، أو يجتهد فعلاً للتأثير على العالم بكل ما فيه من تناقضات فكرية أو سياسية أو غير ذلك. فوجود فئة من المثقفين مهما ثقلت أوزانهم الفكرية على الساحة العربية، فإنه سرعان ما تستخف المشاريع العملية برذاذ أفكارهم التي لم تعد تخدم العصر الذي يخسر فيه الإنسان العربي حتى في تعامله مع الآخر. فإلى متى يتمسك البعض بتيارات فكرية لم تعد لها عملة رائجة كعُملة أهل الكهف التي لم تسقهم ماء، ولم تطعمهم خبزاً؟