لماذا لم يكن اتفاق الدوحة بشأن الأزمة اللبنانية كافياً لإذابة الجليد بين سوريا والسعودية، في الوقت الذي يبدو أن شيئا بدأ يتحرك بين القاهرة ودمشق في الأيام الماضية؟ لقد كان واضحاً، لشهور قبل هذا الاتفاق، أن الأزمة اللبنانية هي العامل الرئيسي وراء التدهور الذي حدث في العلاقة بين سوريا وكل من السعودية ومصر، وبلغ مستوى القطيعة تقريباً بين دمشق والرياض بينما أدى إلى تباعد شديد بين دمشق والقاهرة. وقبل تلك الشهور التي تفاقمت فيها الأزمة اللبنانية في ظل الفراغ الرئاسي الذي امتد من 24 نوفمبر 2007 إلى انتخاب الرئيس ميشال سليمان في 25 مايو الماضي عقب اتفاق الدوحة، كانت حرب صيف 2006 مؤثراً قوياً على البعد الإقليمي العربي لهذه الأزمة. وظهر ذلك جلياً عندما قامت قوات تابعة لـ"حزب الله" بعملية "الوعد الصادق" التي أسرت فيها جنديين إسرائيليين، إذ شنت سوريا حملة إعلامية على السعودية ومصر اللتين أبدتا قلقهما من تداعيات هذه العملية، ونظرتاً إليها باعتبارها نوعاً من المغامرة غير المحسوبة. غير أن ما حدث بعد حرب صيف 2006 كان كاشفاً بدرجة أعلى وبوضوح أكثر لحجم الأزمة التي ضربت المثلث، الذي كان له الدور الأكبر في الحفاظ على النظام الإقليمي على مدى عقد ونصف العقد. فكان خطاب الرئيس السوري، الذي هاجم فيه قادة عرباً اعتبرهم "أنصاف رجال"، نقطة تحول في الأزمة العربية التي تمثل امتداداً للأزمة اللبنانية التي بدأت نذرها منذ أن أصرت دمشق على التمديد للرئيس السابق إميل لحود عندما انتهت ولايته في نوفمبر 2004، وأخذت في التصاعد منذ اغتيال الحريري في فبراير 2005. ولذلك، فثمة علاقة واضحة بين الأزمة اللبنانية والأزمة بين سوريا والسعودية، والتي باتت مصر طرفاً فيها من زاوية اقترابها من الموقف السعودي وإن لم يكن إلى مستوى التطابق معه. ولذلك، أيضاً، كان طبيعياً أن يثار السؤال عن إمكان تأثر الأزمة السورية -السعودية -المصرية بإحراز تقدم في اتجاه حل الأزمة اللبنانية، خصوصاً وأن الخطاب الرسمي لكل من الرياض والقاهرة دعم الاعتقاد في وجود هذا الارتباط. أما وأن اتفاق الدوحة، الذي حقق مقداراً من التقدم في معالجة الأزمة اللبنانية، لم يساهم في تحريك الأزمة السورية -السعودية حتى الآن، فمن الطبيعي أيضاً أن يثار السؤال عما إذا كان الارتباط الشائع بينها وبين الأزمة اللبنانية أكيداً أم أن ثمة مبالغة في الأمر. والحال أن هذا الارتباط أكثر من أكيد، وإن لم يكن هو المصدر الوحيد للأزمة بين سوريا وكل من السعودية ومصر على ما بينهما من تفاوت في درجة تأزم علاقاتهما مع الضلع الثالث للمثلث الذي كان بمثابة القلب بالنسبة إلى النظام العربي الرسمي منذ الغزو العراقي للكويت وحتى بعيد الغزو الأميركي للعراق. وقد ساهم ارتباط الأزمة اللبنانية بالصراع الأوسع على الشرق الأوسط في دعم تأثيرها على العلاقات السورية -السعودية -المصرية. فقد أعطى هذا الارتباط أهمية إضافية للصراع على لبنان، بعد أن أصبح ساحة مهمة للصراع الإيراني -الأميركي على الشرق الأوسط، إلى جانب الساحة العراقية. ومع ذلك، فقد كانت العلاقات السورية -السعودية مرشحة للتباعد بسبب الأزمة اللبنانية، حتى لو لم تكن لهذه الأزمة علاقة بالصراع الأوسع على مستقبل المنطقة. فالأزمة اللبنانية تنطوي، في أحد أبعادها، على اختلال التوازن الذي استمر لنحو عقد ونصف العقد بين الدولة التي رعت التسوية التي أنهت الحرب الأهلية (1975- 1989)، والدولة التي كرست هذه التسوية نفوذها في لبنان. فقد خلقت التسوية المتضمنة في "اتفاق الطائف" علاقة قامت على مزيج من التوافق والتنافس بين سوريا التي حافظت على مركز الدولة الإقليمية صاحبة النفوذ الأكبر في لبنان، والسعودية التي صارت الدولة الإقليمية الثانية من حيث التأثير في هذا البلد بعد "اتفاق الطائف". ورغم أن اتجاه الولايات المتحدة، ومعها فرنسا، إلى استهداف سوريا بعد غزو العراق، بدءاً بالسعي لإخراج قواتها من لبنان، ألقى بظلال كثيفة على هذه الأزمة، فالأرجح أن اغتيال الحريري كان كافياً لتوتير العلاقات السورية -السعودية ومن ثم تدهورها، تحت أي ظرف دولي. ولا يعني هذا أن دمشق مسؤولة بالضرورة عن هذا الاغتيال، حتى إذا كانت علاقتها مع الحريري قد توترت بسبب إصرارها على التمديد للحود. ولم تصدر عن الرياض أية إشارة تفيد اتهام دمشق بذلك. لكن أصابع الاتهام التي وجهت من هنا وهناك إلى أجهزة أمنية سورية، وتشدد موقف حلفاء دمشق اللبنانيين ضد مشروع إنشاء محكمة ذات طابع دولي في هذه القضية، ساهما في خلق حالة داخلية لبنانية وإقليمية دفعت باتجاه توتر متزايد في العلاقات السعودية -السورية. وأدى تصاعد الصراع الأميركي -الإيراني في الشرق الأوسط إلى تعزيز هذا التوتر الذي ما كان له أن يبلغ ما بلغه نتيجة لمثل هذا الصراع الإقليمي وحده أو في غياب أزمة لبنانية داخلية عميقة. وهذا الارتباط بين الداخل والعوامل الإقليمية -الدولية المؤثرة عليه، كان حاضراً في تاريخ لبنان منذ أواسط القرن التاسع عشر. وكان حضوره مهماً كذلك في إطار التوافق التنافسي السعودي -السوري في لبنان بعد اتفاق الطائف. فقد كانت هناك صلة وثيقة بين هذه العلاقة التي حافظت على استقرار الأمر الواقع في لبنان بموجب اتفاق الطائف، والتفاهم الضمني السوري -الأميركي في الاتجاه نفسه والذي نتج عن التقارب بين دمشق وواشنطن في مواجهة الغزو العراقي للكويت بعد أقل من عام على ذلك الاتفاق. لقد أدى انضمام سوريا إلى التحالف الدولي لتحرير الكويت إلى تقارب غير مسبوق مع واشنطن. وأنتج ذلك تفاهماً ضمنياً بينهما على استمرار دور سوريا ونفوذها في لبنان. ورغم أن هذا الوضع لم يكن مريحاً تماماً للقوة الدولية صاحبة النفوذ التاريخي في لبنان، وهي فرنسا، فإنه لم يكن مصدر إزعاج جوهريا لها. ومع ذلك ظلت باريس تتحين أية فرصة لمراجعة هذا الوضع. وقد حانت تلك الفرصة في الوقت الذي سعى "المحافظون الجدد" في واشنطن إلى إعادة ترتيب المنطقة انطلاقاً من غزو العراق. وعندما وجدت دمشق نفسها تحت ضغط شديد مرشح للتصاعد بدءاً من منتصف عام 2004، حاولت أن تستبق تشديد هذا الضغط، فلجأت إلى إجراءات خلقت فجوة بينها وبين حلفاء السعودية في لبنان. فعندما اعترض الحريري على إصرار سوريا على التمديد للرئيس لحود، ثم أُرغم على القبول بذلك، كانت هذه نقطة تحول في العلاقة بين الدولتين الإقليميتين اللتين حافظتا على استمرار الوضع في لبنان منذ تسوية الطائف. والأرجح أن دمشق، التي هالها حينئذ ما كان ينتظرها من جانب واشنطن وباريس، أرادت الإبقاء على لحود ليس فقط لولائه لها، ولكن لأن الوضع لم يكن يتحمل انتخاب رئيس جديد لا يملك خبرة كافية لمساعدتها حتى ولو كان أكثر ولاءً لها من لحود. وضحت دمشق، في هذا السياق، بتحالفها مع آل الحريري وتيارهم العريض في أوساط اللبنانيين السُنَّة، مما أدى إلى تعطيل الجسر الذي ربط نفوذها القوي في لبنان بالمصالح السعودية فيه. وجاء اغتيال الحريري بعد ذلك مباشرة، فنسف هذا الجسر، وأعاد ترتيب التحالفات في داخل لبنان وفي المنطقة على النحو الذي خلق الأزمة التي هددت بإعادة إنتاج الحرب الأهلية قبل أن يحقق اتفاق الدوحة هدنة يصعب أن تتحول إلى حل سياسي بدون حوار سوري -سعودي. وهذه هي الحلقة المفقودة إلى الآن في الجهود المبذولة لتثبيت اتفاق الدوحة حتى بعد تشكيل الحكومة الجديدة، على نحو يتيح الانتقال من الهدنة إلي حالة تسمح بالتقدم في اتجاه حل الأزمة.