في زيارتك القادمة للندن، وبعد أن تكون قد أنهيت أعمالك وجولات تسوقك، أنصحك أن تقوم برحلة بالقارب في نهر "التايمز" متجهاً نحو المرصد الملكي في "جرينيتش". ويمكنك وأنت في القارب أن تترنم بألحان من رائعة هيندل "موسيقى الماء" إذا ما أردت. وحين تصل "جرينيتش" ما عليك سوى الصعود في الطريق المائلة المؤدية إلى خط الزوال الشهير، ثم ضع بعد ذلك قدماً على يمينه وأخرى على يساره، أي قدما في نصف الكرة الغربي، وقدماً أخرى في نصفها الشرقي. وإذا ما تخيلت أنك ستتجه غرباً، فستكسب وقتاً، أما إذا تخيلت أنك تتجه شرقاً فستخسر وقتاً. من منظور زمني، عندما تكون واقفاً فوق خط الزوال هذا فإنك تكون ممتطيا للمحور المركزي لسطح الأرض. كنت أتخيل ذلك المكان، وأتخيل تلاميذ المدارس الإنجليز المبتهجين، وهم يقفون فوق خط الزوال، في معظم عطلات نهاية الأسبوع. عندما قرأت -وهذا يحدث للعام الثاني على التوالي- أن شركة "ماستر كارد وورلد وايد سنترز" للمؤشرات التجارية، قد وضعت "لندن" على رأس قائمة المدن ذات الأهمية المالية في العالم، قبل نيويورك وطوكيو وسنغافورة وشيكاغو وهونج كونج وباريس وفرانكفورت وسيؤول وأمستردام. احتلت "شنغهاي" الصينية المركز الرابع والعشرين (من بين 75 مدينة تم مسحها) في حين جاءت مدينة "مومباي" الهندية في المركز الثامن والأربعين، وموسكو في المركز الحادي والخمسين. والنصيحة التي أقدمها في هذا السياق هي ضرورة التعامل بحذر مع مثل هذه التقييمات، لأنها غالباً ما تكون مبنية على بعض المعايير الموضوعية، التي تكون لها قيمة معينة في الوقت الذي يتم فيه إعداد هذا التقييم، ثم لا تكون لها مثل هذه القيمة في وقت آخر. كيف يمكنك مثلا قياس "خلق المعرفة" أو "القابلية للحياة"، وهما جانبان من الجوانب المتضمنة في هذا التقييم؟ من المؤكد، أن ثمة العديد من التقييمات المعقولة، ومنها مثلاً حجم المشروع، وتواجد المؤسسات المالية، وعددها. ومعلوم أن لندن يوجد بها عدد من البنوك العالمية الكبرى، التي تتعامل برؤوس أموال هائلة، تفوق تلك الموجودة مثلاً في اسطنبول، أو كوالالمبور. فخبرة لندن الطويلة في التعامل مع السندات الحكومية، والأسهم الخاصة، والاستثمارات، والتأمين، تمنحها "قوة نسبية" في الأسواق المالية. بيد أن تلك القوة لا تفسر المركز المتفوق الذي تحتله هذه المدينة، وتتميز به عن مدن أخرى مثل فينيا، وميلانو، وطوكيو، وساوباولو... وجميعها مدن تجيد التعامل مع الأموال والاستثمارات. والسؤال عن "الميزة" التي تحظى بها لندن يرد إلى الذهن، عندما ينظر المرء إلى المعيار المفضل كثيراً في تقييمات "ماستر كارد"، ألا وهو الوزن النسبي لـ"الإطار القانوني والسياسي" الموجود في لندن. إنه لشيء جيد بالطبع أن يتم التركيز على هذا العنصر، لأنه يذكرنا بذلك السبب الرئيسي، والمسكوت عنه في أغلبية الأحيان، وهو "القدرة على التنبؤ المالي" الذي يميز معظم المراكز المالية، والذي غالباً ما يكون مفتقداً في المراكز المالية الأصغر حجماً، والأقل استقراراً. منذ ما يزيد عن قرنين من الزمان، رأى "آدم سميث" أن الأمر يستلزم فقط بعض الأشياء الصغيرة لتحويل دولة من البربرية إلى الرفاهية؛ منها: السلام، والضرائب الميسرة، والإدارة المتسامحة لمنظومة العدالة، وأن العامل الأخير تحديداً هو أكثر هذه العوامل أهمية على الإطلاق. فمعظم المشروعات التجارية، لا تمانع في دفع بعض الضرائب، بشرط أن تكون معقولة، وممكناً التنبؤ بها، كما أن معظم المشروعات لا تخاف من الحكومات، بل على العكس تكون في حاجة ماسة إليها، كي توفر لها إطاراً من القانون والنظام، شريطة ألا تكون استبدادية وأن تحترم الصفقات التجارية. النظامان القائمان في فنزويلا وروسيا على سبيل المثال لا الحصر، لم يفهما هذه النقطة، وكانت سياستاهما كالتالي: قم بأقل قدر ممكن من الإجراءات التي يمكن بها إزعاج الأسواق التي تعاني بالفعل من عوامل الإزعاج الأخرى، والتي لا يمكن التنبؤ بها. لندن فهمت هذه النقطة، كما فهمتها مدن أخرى مثل هونج كونج، وسنغافورة، وأمستردام. لذلك فإننا حتى إذا تمكنا من فهم السبب الذي يجعل "شافيز" و"بوتين" لا يحظيان بثقة دولية فسنكون فقط قد قطعنا مسافة قصيرة للأمام في مسعانا لمعرفة المتغيرات الأكثر تأثيراً في تحديد وضعية المدن المالية. غير أن ورود أسماء مدن مثل هونج كونج (السادسة من حيث الترتيب)، وسنغافورة (الرابعة) ونيويورك (الثانية) وشيكاغو (الخامسة)... يلفت نظرنا إلى حقيقة مهمة، وهي أن خمسة من بين كبرى المراكز المالية في العالم، تقع في دول ناطقة بالإنجليزية وهي لغة الاستخدام الدولية. لكن إذا ما توجب أن تكون المراكز المالية العالمية في العالم الناطق بالإنجليزية، فلماذا لا تكون "شيكاغو" هي المركز الأول وليس لندن ولماذا لا تكون "سنغافورة" كذلك؟ هنا تأتي النصيحة الذهبية التي يكررها سماسرة الأراضي والعقارات دوماً كي تلعب دورها، وهي "الموقع ثم الموقع ثم الموقع". فالغالبية العظمى من سكان الكرة الأرضية، يعيشون في مناطق خط العرض الأوسط، بين خطي طول يمتدان من طوكيو إلى سيدني في الشرق، وعلى امتداد خط طول سان فرانسيسكو (حوالي 120 درجة غرباً) في الغرب. ففي هذه المنطقة تحديداً تقع الأسواق، وتزدهر التجارة، ويتركز كل شيء تقريباً. وإذا ما نظرنا إلى نقطة أخرى، هي تغيرات الليل والنهار في كوكبنا، فسنجد أن مفارق الطرق، وأوقات دوام الشركات والبنوك، غالباً ما تتركز في خطوط الطول الوسطى، والأرجح أن تكون في نصف الكرة الشمالي في مكان ما بين "لشبونة" و"اسطنبول". فالأطر الزمنية الواقعة في هذه المسافة يمكن أن تتقاطع مع الأطر الزمنية لقارة آسيا في بداية يوم العمل، ومع أسواق أميركا الشمالية في فترة بعد الظهر. وإذا ما أضفنا إلى ذلك عامل اللغة الإنجليزية فسنجد أن لندن هي المدينة التي تنطبق عليها كافة الشروط. وهذا المزيج من المزايا التي تتمتع بها لندن يصعب التفوق عليه؛ فالجزائر مثلاً تقع على نفس خط الطول ووارسو أيضا، لكن وقوعهما هناك لا يعني الشيء الكثير. هل ثمة احتمال لأن تفقد لندن صدارتها؟ هذا وارد بالطبع... فالسياسات الغبية التي يمكن أن تقوض قدرة المدينة على توفير حرية التجارة، وإمكانية التنبؤ التجاري، وحكم القانون، والضرائب المعقولة، والسمعة العريقة كمركز تجاري عالمي... كلها عوامل يمكن أن تقود إلى أضرار كبيرة. وكل دولة، حاولت السطو على مراكزها الاستثمارية (بدلاً من التوصل إلى تسوية معقولة بين الربح وبين المسؤولية المالية) دفعت في النهاية ثمناًً باهظاً. والحقيقة أن ثمة عددا من التحديات المحتملة لمكانة لندن تأتي من مدن مثل "فرانكفورت" وأيضاً -وهو الشيء المثير للاهتمام- "دول الخليج" التي تتمتع بمزايا جغرافية فريدة وسط قارات العالم. غير أننا يجب أن نقول، مع ذلك، إنه حتى في حالة حدوث تدخلات حكومية، أو برلمانية، يمكن أن تسبب أضراراً للمدينة لبعض الوقت، فإن المزيج الفريد الذي تمتلكه لندن والذي يتمثل في: أولاً، الموقع المتوسط. ثانياً، اللغة الإنجليزية. ثالثاً، القوة والعمق في التجربة المالية... هو الذي سيساعد على احتفاظ المدينة بتفوقها النسبي، وقدرتها التنافسية، ومكانتها المالية في السنوات القادمة. وربما يكون العامل الأكثر أهمية من غيره هو الجغرافيا، وهو تخصص تم استبعاده -وهنا المفارقة- من كافة المدارس والجامعات. إن لندن مركز مالي عالمي، للعديد من الأسباب التاريخية والمؤسسية، كما رأينا، لكنها كذلك لسبب رئيسي وهو كونها ليست "كامتشاتكا" (منطقة تقع في أقصى شمال سيبيريا) ولا "تيرا دل فيوجو" (جزيرة تابعة لشيلي). ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفيس"