إعلان الصين يوم السبت الماضي عن اتفاق المفاوضين على خطة للتحقق من نزع كوريا الشمالية لأسلحتها النووية يندرج، حسب البعض، في سياق الإشارات الإيجابية التي أبداها نظام بيونج يانج في الآونة الأخيرة. فلفترة ليست بالقصيرة يتردد في واشنطن حديث متفائل عن التقدم الذي أحرزته ما يسمى بالمفاوضات السداسية مع "بيونج يانج" حول برنامجها النووي، وبأن الموضوع برمته في طريقه إلى التسوية النهائية. ولكَم أتمنى أن يكون هذا الكلام حقيقياً وأن يُغلق هذا البرنامج النووي. والحقيقة المؤسفة أن نظام "كيم يونج إيل" حصل على كل ما يريده وحقق نصراً مؤزراً، مستغلا حرص الولايات المتحدة على تحقيق نجاح دبلوماسي قبل مغادرة الإدارة الحالية للبيت الأبيض لزرع الانقسام بيننا وبين حلفائنا الأساسيين في المنطقة. ولا شك أن الكوريين الشماليين في هذه اللحظة يجاهدون لإخفاء ابتسامتهم وهم ينظرون بخبث إلى الأوراق التي مازالت في حوزتهم. وبموجب الاتفاق الأخير وافقنا على شحن مليون طن من الوقود إلى كوريا الشمالية، ورفعنا الحظر التجاري على النظام، وفي غضون أيام قليلة ستتلاحق البضائع والسلع متدفقة على البلاد بعدما تشطب من لائحة وزارة الخارجية للدول الراعية للإرهاب. ويأتي ذلك بالإضافة إلى القرار الأميركي في العام الماضي الذي سمح لكوريا الشمالية بتحويل أموالها المشبوهة خارج بنك "ماكاو" والتصرف فيها بحرية كاملة. لكن البطل الحقيقي الذي جمع المجد من أطرافه هو "كيم يونج-إيل" الذي يعرف جيداً بأنه مازال يحتفظ بمستودع البلوتونيوم، بل ويحتفظ أيضاً بأسلحته النووية، عدا طبعاً تلك التي اختبرها في 2006 لينصب الفخ لأميركا. وحتى بعد الاتفاق لن يكون مطلوباً من كوريا الشمالية الكشف عن برنامجها لتخصيب اليورانيوم الذي أتت به من باكستان في مطلع العقد الحالي، أو توضيح دورها فيما يشتبه أنه مفاعل نووي في الصحراء السورية. وفيما يصر المسؤولون في كوريا الشمالية بأنهم غيروا سلوكهم وتخلوا عن الكثير من تطلعاتهم أكدت صحيفة "واشنطن بوست" خلال الشهر الماضي وجود آثار لليورانيوم في الوثائق ذاتها التي رفعتها "بيونج يانج" إلى واشنطن في مسعى منها لإبراء ذمتها وإخلاء مسؤوليتها. وفي مقابل كل تلك التنازلات الأميركية والغربية لم تقم كوريا الشمالية سوى بتفجير أحد الأبراج المسؤولة عن التبريد في محطتها النووية "يونجبيون" في حركة دعائية ذكية كلفت الولايات المتحدة 2.5 مليون دولار. والحقيقة المُرة أن كوريا الشمالية لم تعد في حاجة إلى محطة "يونجبيون" المهترئة والمتقادمة بعدما تحولت إلى عبء ثقيل وهدف سهل وواضح للطائرات الأميركية. وما قيام كوريا الشمالية بتدمير الجزء المخصص للتبريد في المحطة سوى خطوة لاستباق أي تحرك عسكري أميركي يطيح بالمفاعل في جنح الظلام، كما أنه من الأفضل الاحتفاظ ببرنامج سري لتخصيب اليورانيوم وإخفائه في مكان آمن وبعيد عن الأنظار بدل الإبقاء على محطة يرصدها العالم أجمع. والأكثر من ذلك أن مكافأة كوريا الشمالية بشطب اسمها من قائمة الدول الراعية للإرهاب، لن تساهم فقط في تعزيز قبضة النظام ودعم مكانته على الساحة الدولية، رغم استجابته المتواضعة جداً، بل ستوجه ضربة قوية إلى حلفائنا في المنطقة، وبخاصة اليابان التي مازال 13 على الأقل من مواطنيها مختطفين من قبل النظام الكوري الشمالي خلال السبعينيات والثمانينيات. ولنا أن نتصور ردة الفعل الأميركية لو أن دورية كوبية اختطفت في عرض البحر مواطنين أميركيين، حينها ستزحف الولايات المتحدة على الجزيرة الصغيرة لاسترجاع المواطنين الأميركيين. وإذا ما قررنا التخلي عن ملف المخطوفين اليابانيين، في الوقت الذي تعهدنا فيه بحماية اليابان مقابل عدم تطويرها للأسلحة، فإن ذلك سيولد انطباعاً مغلوطاً لدى طوكيو بعدم جدية الوعود الأميركية، لا سيما وأن صواريخ كوريا الشمالية التي لا تستطيع الوصول إلينا قادرة على ضرب اليابان وإشعال فتيل حرب أخرى في منطقة شمال شرق آسيا. ولا يعني ذلك أن الملف النووي لكوريا الشمالية سهل، وبأن التعامل مع النظام في "بيونج يونج" خال من التعقيد، فقد حاول مسؤولون أميركيون على قدر كبير من التجربة والاطلاع معالجة الملف النووي لكوريا الشمالية، لكن دون جدوى. وإلى غاية اليوم لم تُبدِ كوريا الشمالية أي رغبة حقيقية في التخلي عن أسلحتها النووية، ومع الأسف لا نستطيع من جانبنا إرغامها، أو حثها على ذلك. ورغم كل الكلام المتفائل الصادر عن الأطراف المفاوضة-الصين واليابان وكوريا الجنوبية وروسيا والولايات المتحدة- فإنه لحد الآن لا يوجد ما يثبت أن كوريا الشمالية مستعدة فعلاً لفتح صفحة جديدة مع المجتمع الدولي وتفكيك برنامجها النووي بشكل نهائي. لكن الأمور لن تتحسن إذا استمررنا في التظاهر بوجود تقدم ما والتسويق له على الساحة الدولية، في الوقت الذي نتجاهل فيه الانشغالات الحقيقية لحلفائنا في المنطقة. ولأن التعاطي مع كوريا الشمالية يتجاوز مصالحنا الخاصة ليمس على نحو مباشر مصالح اليابان والدول الأخرى المجاورة فإنه لا بد من اعتماد المزيد من الصدق والشفافية في صياغة علاقاتنا مع "بيونج يانج". آرت براون ــــــــــــ مدير قسم آسيا بوحدة الخدمات السرية في CIA بين 2003 و2005 ــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"