أثارت بعض الإجراءات التي اتخذتها الحكومات العربية في مطالع الألفية الثالثة، في اتجاه الانفتاح الاقتصادي والسياسي، انتعاشاً كبيراً للآمال في هذه المنطقة التي بقيت خلال ربع قرن الماضي من أقل مناطق العالم تأثراً برياح التغيير القوية التي هزت المنظومة الاشتراكية سابقاً. وتفاءل كثير من المراقبين بقدوم ما أسموه في حينه "الربيع العربي"، معتقدين أن وقت الديمقراطية العربية قد حان. فربط الأميركيون مشروع تعزيز سيطرتهم على الشرق الأوسط ومنابع النفط فيه بالضغط على الأنظمة العربية وتأكيد أولوية التحول الديمقراطي. بيد أن السنوات التي تلت ذلك بينت أن ما حاوله بعض القادة العرب من انفتاح تجلى أساساً في السماح بانتخابات تشريعية وتكوين مجالس شورى "جديدة"، لم يكن إلا من قبيل ذر الرماد في العيون، وأن خروج الدول العربية من نموذج النظام السياسي التسلطي لا يزال إشكالياً بالمعنى الحرفي للكلمة. فلا تزال السلطة فيها، رغم المظاهر السطحية، حكراً على فئات محددة من السكان والطبقات، كما لا يزال استبطانها لمفهوم المواطنة ضعيفاً لدرجة يصعب على الأفراد فيها أن يتعرفوا على حقوقهم المدنية والسياسية، فما بالك بالدفاع عنها أو تكوين قوى سياسية منظمة لوضعها موضع التطبيق. وقد دلت التجربة على أن السلسلة الأولى من الإجراءات الانفتاحية التي تساهم في إنعاش النظام، لا تثير مشاكل كبيرة للممسكين بالسلطة، بل تبدو لهم الطريق الوحيدة لإنقاذ الحكم من الركود الاقتصادي والجمود السياسي اللذين يهددان بأعظم المخاطر. لكن الأمر يختلف بعد ذلك عندما تنفتح عملية التغيير على نوع من الإجراءات التي تتضمن حداً أدنى من التنازل عن جزء من السلطة، حتى للطبقة التكنوقراطية المسؤولة عن تسيير المؤسسات الإدارية والاقتصادية، فما بالك بقبول مبدأ تداول السلطة أو تقاسم الصلاحيات بين النخب المختلفة، أو رفع الوصاية عن المواطن والاعتراف بأهليته السياسية. وإذا كان بعض النظام والأمن والاستقرار لا يزال قائماً في كثير من البلاد العربية، فليس ذلك بسبب وجود نظام سياسي حي، أو قادر على بلورة إرادة جمعية والتعبير عنها وتنظيمها، بقدر ما هو ثمرة الاعتماد المباشر على فعالية الأجهزة الأمنية المدعمة من الخارج والمتماهية مع النظام، خلافاً لما تفيده النظريات الاجتماعية السائدة. وعندما لا تتوفر الامكانيات الكافية لتغيير البنى الفكرية والسياسية والاقتصادية، تنحو المجتمعات إلى إعادة بناء المؤسسات القديمة ذاتها بما يمكنها من الرد على الحاجات والوظائف والتحديات الجديدة. من هذا المنظور، لا يكون الخراب المدني والسياسي الذي شهدته المجتمعات العربية، لا ثمرة الجمود الفكري وثقافة الخرافة والأسطورة، ولا نتيجة تشوه البنيات المجتمعية وتكسيرها... وإنما هو حصيلة ممارسة تاريخية وخيارات قام بها العرب أنفسهم، أو بالأحرى قامت بها نخبهم الاجتماعية، التي عبرت عن خلاصة وعيهم واختصرته في حقب معينة. وهذه الممارسة ليست شيئاً آخر سوى مشروع تحديث المجتمعات العربية أو إدراجها في الحداثة، والذي بدأ مع إدراك هذه النخب لعمق الهوة التي تفصل مجتمعاتها، على المستويات العلمية والتقنية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، عن المجتمعات الأوروبية. وليس المقصود بالحداثة هنا التقنية الصناعية أو المادية عامة، لكن قبل ذلك الحداثة الثقافية، أي كل ما تعلق بمنظومات القيم وأساليب التفكير والبناء النظري والعلمي أيضاً. فالوضعيات التي نعيشها اليوم، والتي تتميز بالفوضى، وانعدام المبادرة، وغياب الوضوح في الرؤية، وبالتالي غياب التيارات القائدة الرئيسية، وضعف إمكانية بروز قيادة سياسية واجتماعية، بل تهافتها... هي ثمرة إفلاس مشروع هذه الحداثة الرثة، أي الممارسة التاريخية التي تحققت باسمها منذ ما يقارب القرنين، والتي أقامت نظماً من النظر والتأمل والتفكير والأخلاق والسياسة والإنتاج حديثة بالفعل، لكنها مفتقرة للمقومات الذاتية، أي منفصلة عن نبع إلهامها ومصدر حركتها وطاقتها، كسيارة من دون محرك... وفيما وراء هذا الإفلاس نجد انهيار روح المبادرة التي كانت تقف وراءها، وسيطرة الحيرة التي فجرتها على مستوى الوعي والإرادة. ويعني الافتقار للمقومات الذاتية أموراً كثيرة؛ منها تشوش المفهوم ذاته، أي فقر المفاهيم الحديثة وضعفها وقلة الجهود المبذولة لإعادة بنائها، ومنها هشاشة التشكيلات والهياكل الحديثة وعدم استقرارها، سواء ما تعلق منها بطبيعة الدول وحجم الموارد التي تستطيع المراهنة عليها، أو تكوين الرابطة الوطنية بين الأفراد بما يضمن وحدة إرادتهم واتساق مصالحهم، ومنها هشاشة القاعدة الاجتماعية الحاملة لقيم الحداثة ورموزها، أعني بشكل أساسي الطبقات الوسطى الضيقة والمحدودة. هذه البنيات، الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي ميزت الحداثة الرثة، هي المسؤول الرئيسي عن المأزق الذي وصلته دولة الحداثة أو الدولة الحديثة ومؤسساتها الرسمية، بما في ذلك المؤسسة السياسية. وهي تفسر بشكل أكبر عجز المجتمعات العربية ما بعد الاستعمارية عن تطوير فكر ديمقراطي وتنمية الحاجة الحقيقية إلى الديمقراطية، أي إيجاد مطلب ديمقراطي يرتبط بإرادة المشاركة وممارسة الاستقلال الذاتي لدى الأفراد وتأكيد قيم السيادة والحرية عند كل فرد منهم. تعبر هذه الممارسة التاريخية، أو النموذج الرث للحداثة الذي وصلته المجتمعات العربية، عن نوعية الاختيارات التي تبنتها النخب الحديثة أو التحديثية منذ منتصف القرن التاسع عشر إلى اليوم، وكذلك الاستراتيجيات التي اتبعتها، على مستوى الثقافة والاقتصاد والسياسة والمجتمع والعلاقات الدولية والإقليمية معاً. فليس من الصعب أن نلحظ كيف أن الاعتماد على الخارج واستيراد العلم والتقنية، ظل الأسلوب السائد على المستوى الثقافي، بدل السعي إلى بلورة قطب داخلي للتربية الحديثة والإنتاج العلمي والتقني. وعلى المستوى الاقتصادي، ترددت هذه الاختيارات بين الانفتاحية الليبرالية الاستعمارية أو شبه الاستعمارية من جهة والانغلاق البيروقراطي الاقتصادي الذي قطع البلاد عن موارد التطور التقني من جهة ثانية. أما على المستوى السياسي فقد اتسمت الممارسة بالتردد الدائم بين النظم الأبوية الجامدة والنظم الشعبوية الباحثة عن مصادر للشرعية أكثر من بحثها عن تحقيق أية أهداف جدية. وفي الحالتين كانت النتيجة أحادية فكرية وسياسية قاتلة. وعلى المستوى الجيوستراتيجي ساد اختيار التنمية القطرية وتقديس السيادة الوطنية الشكلية، على كل مشاريع التكتل الإقليمي، اقتصادية كانت أم سياسية أو جيوسياسية.