الاتحاد من أجل المتوسط له خلفية تاريخية، فبداية المشروع الأوروبي المتوسطي رأت النور في عهد الجمهورية الفرنسية الخامسة برئاسة الجنرال شارل ديجول في ظل استراتيجية إحياء دور فرنسا على الساحة الدولية، وهيأ اندلاع حرب أكتوبر وما تلاها من أزمة النفط المناخ لحوار عربي- أوروبي حول القضايا المشتركة مع تركيز الطرف الأوروبي على الجانب الاقتصادي وإصرار الطرف العربي على تفعيل دور أوروبا في الصراع العربي- الإسرائيلي، وانتهى أمر الحوار وتوقفت جولاته. وخرجت صيغ أخرى للمشروع فيما عرف باسم بصيغة "خمسة + خمسة" التي تضم خمس دول أوروبية متوسطية هي فرنسا وإسبانيا والبرتغال وإيطاليا ومالطا، وخمس دول عربية هي تونس والجزائر والمغرب وموريتانيا وليبيا. وتطورت هذه الصيغة إلى منتدى البحر المتوسط. والصيغة المهمة التي طرحت هي صيغة الشراكة الأوروبية المتوسطية التي عقد في إطارها مؤتمر برشلونة في نوفمبر 1995 وتشمل التعاون بين الطرفين في المجال الاقتصادي والسياسي والعلمي والثقافي. وتضمنت وثيقة المؤتمر إشارة إلى الدعوة إلى إقامة شراكة حقيقية شاملة بين الأطراف في ثلاثة ميادين هي، التعاون الاقتصادي والمالي، والتعاون في الشؤون الاجتماعية والثقافية والشراكة السياسية والأمنية. كما دعا المؤتمر إلى ضرورة الاهتمام بنشر الديمقراطية والحوار الحضاري ومحاربة العنف والتطرف والتخلص من أسلحة الدمار الشامل. وفي الفترة الحالية خرج علينا مشروع "الاتحاد من أجل المتوسط" ليكون امتداداً للمشاريع المتوسطية السابقة من حيث الأهداف وأطر التعاون، والتي بدأت اقتصادياً بالتركيز على تنمية دول حوض المتوسط، ثم تحولت أبعاده إلى أبعاد ثقافية وسياسية وأمنية. وفي هذا الشأن نكتشف بأن البعد الجغرافي ليس هو الفلك الأساسي، الذي تدور حوله دول المشروع بحيث لا يرتبط بوعاء الدول المطلة على البحر المتوسط، فهناك دول من الاتحاد الأوروبي ممن تندرج في صيغة الشراكة رغم عدم إطلالها على البحر المتوسط ومثال ذلك بريطانيا (إذا استثنينا إطلالها عليه من جبل طارق) وألمانيا، ومن الدول العربية الأردن. وفي رؤية المشروع من خلال الدولة المبادِرة نستنتج أن هناك محاولةً للرئيس الفرنسي ساركوزي لأخذ مكانة في محفل الرؤساء الفرنسيين الكبار كديغول وبومبيدو وجيسكار ديستان وميتران وشيراك، كما ترغب فرنسا في إيجاد إطار لها ولأوروبا عبر شمال أفريقيا وجنوب أوروبا، وبطبيعة الحال في جزء مهم من الشرق الأوسط في العلاقات الدولية وغير الدولية المتعددة، وذلك على عدة أصعدة سياسية وأمنية واقتصادية وثقافية. أما على المستوى الدولي، فالمشروع يحمل مقارنة بمشروع الشرق الأوسط مظهرين من مظاهر التنافس وليس الصراع الأوروبي- الأميركي على منطقة الشرق الأوسط. وفي المقارنة بين المشروعين، نجد أن مشروع الشرق الأوسط يقوم على أساس إدماج بعض الدول العربية في نظامٍ استراتيجي له أهدافه المختلفة والمشتركة من حقبة إلى أخرى مع الولايات المتحدة الأميركية، وهذا مشروع أميركي متحول بطبيعة تغير الأهداف، حيث بدأ في منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط في عام 1950 ومشروع حلف بغداد في عام 1955 لصد احتمالية انتشار الشيوعية والمد السوفييتي في المنطقة. ثم أتت الدعوة إلى التوافق الاستراتيجي بين دول الشرق الأوسط في عام 1980، ومع اندلاع حرب الخليج الثانية وما خلفته من آثار إقليمية ودولية وجدت الولايات المتحدة أن الظروف قد باتت ملحة لإعادة طرح مشروع الشرق الأوسط، لا سيما في الفترة الحالية بعد سقوط نظام "البعث" العراقي، وفي ظل عدم استقرار المنطقة من إيران والعراق ولبنان وفلسطين إلى جانب مشاكل المنطقة في قضايا الديمقراطية والعنف والإرهاب والفقر والتنمية، ناهيك عن أهمية المنطقة في الأمن والاقتصاد الدوليين، فكل ذلك شكَّل حزمةً من الحوافز الأكثر إلحاحاً في محاولة خلق أمن واستقرار وسلام في المنطقة. أما المشروع الأوروبي، فكأنه تفعيل للعلاقات بين الدول المشتركة في تنظيم أطلق عليه اسم "الاتحاد من أجل المتوسط"، وهذه العلاقات بطبيعة الحال قائمة بمستويات مختلفة في إطار العلاقات الدولية، فسوريا مثلاًًً يمثل لها المؤتمرُ الأول لهذا الاتحاد فرصة لإعادة علاقاتها الدولية مع أوروبا بعد فترة من التوتر، كما أن إسرائيل ترى فيه بعداً لعلاقاتها الدولية في أطر جديدة من التعاون الاقتصادي والأمني. وكيفما كان هذا التنظيم الجديد الذي يسعى إليه مروجوه، وعلى رأسهم الرئيس الفرنسي، فإنه يطرح تساؤلات عدة تتعلق بمدى جدية الطرف الأوروبي في النظر بإيجابية إلى المشكلات التي تعانيها دول الجنوب، والعمل معها على أنها طرف يقف مساويا لها وليس مجرد مصدر للموارد ... والمشكلات، لا سيما أن البعض يعتبره شكلاً جديداً من أشكال تكريس التبعية السياسية والأمنية والاقتصادية. مع العلم أن من بين أهدافه الأساسية معالجة مشكلة الهجرة ومكافحة الإرهاب والتنمية، وذلك من خلال تحصين الحدود الجنوبية لأوروبا أمام ما قد يشكل تهديداً لأمنها. ولكن ما يؤخذ على هذا المشروع الوليد، هو عدم وجود استراتيجية محددة الأهداف كالمشروع الأميركي، كما أن الدول الأوروبية ستتنافس في ما بينها، وقد تتصادم مع الولايات المتحدة التي تضم في مشروعها دولا من الشرق الأوسط ودولا من أوروبا. كما أن "الاتحاد من أجل المتوسط" قد يكون مكملاً للمشروع الأميركي، وخاصة أنها لم تبد أي معارضة له، وهو ما قد تفسره السياسة الخارجية الفرنسية الجديدة التي اعتنقت استراتيجية التحالف مع واشنطن بعد أن كان الرؤساء السابقون ينؤون بباريس بعيداً عن العم سام. والجدير بالذكر أن خلفية المشروع لا تزال غامضة لدى الكثير من الدول العربية المدعوة للمشاركة فيه، إذ يرى فيه الكثيرون أنه سيكون مطية للتطبيع مع إسرائيل من جهة، ومن جهة أخرى محاولة لإيجاد صيغة أخرى لتركيا بعيداً عن الاتحاد الأوروبي الذي يرفض إلى حد الآن رؤية النادي المسيحي يفتح أبوابه أمام تركيا المسلمة ذات البعد التاريخي والحضاري. الواضح من البداية أن للرئيس الفرنسي نزعةً نحو إثبات الذات وتحقيق المجد بعد أن ولّى عصر القادة الكبار في فرنسا، وها هو يريد ألا يمر من الإليزيه دون أن يترك بصمته حتى وإن أدخل بلاده بيتَ الطاعة الأميركي. أما العرب، فإنهم كعادتهم لا يدرون إلى أين يُساقون، وهم يذهبون إلى أي مكان حتى وإنْ اتبعوا الأوهام، أَوَلم يصفِّقوا في "أنابوليس" دون أن يجدوا لتصفيقهم صدى؟ لمن إذن يغني ساركوزي وفرقته الأوروبية؟ هل يريد فعلاً إدخال الدولة العبرية إلى البيت العربي أم إنه يرغب في إبعاد تركيا عن الاتحاد الأوروبي، أم يريد الأمرين معاً؟ ربما يبحث عن أكثر من ذلك. لا شك أن لكل حساباته في هذا التجمع الذي تداعى من أجله الأوروبيون الذين يتسابقون لنيل أكبر قطعة من الكعكة، والمؤكد أن العرب أكثر الناس بعداً عن الحساب. كل ما في الأمر أنهم سيوقعون شهادة ميلاد تنظيم جديد لا يعرفون أصله وفصله. فهل حقا أن كل هذه الضجة هي من أجل مد يد العون لجيرانهم في الجنوب أم إن في الأمر أكثر من علامة استفهام؟ فمن أجل من تصطخب أمواج المتوسط؟