منذ تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر 2001، جرب الغربيون مقاربتين لمحاربة الإرهاب في باكستان: مقاربة الرئيس بوش، ومقاربة "جريج مورتنسون". فبوش ركز على القوة العسكرية ووفر أكثر من 10 مليارات دولار لحكومة برويز مشرف، غير أن هذه المقاربة فشلت، إذ جعلت المناطق القبلية في باكستان أكثر تشدداً وباتت مأوى وسنداً للإرهابيين أكثر من أي وقت مضى. أما مورتنسون، وهو من سكان ولاية مونتانا الأميركية، فيتبنى مقاربة مناقضة تماماً أنفق فيها أقل بكثير من المبلغ الذي أنفقته إدارة بوش، حيث يقوم الرجل ببناء المدارس في مناطق باكستانية وأفغانية معزولة، ويعمل عن كثب مع رجال الدين المسلمين، بل ويصلي معهم أحياناً. أما الشيء الوحيد الذي ينسفه مورتنسون فهو جلاميد الصخر التي تسد الطرق المؤدية إلى المدارس. وبفضل هذه الأعمال، أصبح مورتنسون أسطورة في المنطقة، حيث تجد صورته معلقة في المرايا الداخلية للسيارات. لكن أعماله وجدت صدى في الولايات المتحدة أيضاً، فقد صدر له في عام 2006 كتاب حول المدارس، "ثلاثة فناجين شاي"، لم تكتب عنه سوى صحف قليلة، ومع ذلك حقق الكتاب نجاحاً مذهلاً، حيث أمضى الأسابيع الأربعة والسبعين الأخيرة على قائمة الكتب الأكثر مبيعاً، وفي أحيان كثيرة كان يتصدر القائمة. وجد مورتنسون مهنته عام 1993 بعد أن فشل في محاولة لتسلق قمة "كي 2" في جبال الهملايا، لكنه أُصيب ورمت به الأقدار في قرية صغيرة مسلمة حيث قام الفلاحون هناك بالاعتناء به ورعايته إلى أن استرجع عافيته، فوعدهم أن يعيد لهم الجميل عبر بناء مدرسة يستفيد منها أبناء القرية. بيد أن جمع المال كان قطعة عذاب؛ إذ لم تأت الرسائل الـ580 التي بعث بها إلى شخصيات مرموقة إلا بشيك واحد فقط، قدمه له الإعلامي المعروف "توم بروكو"، ليضطر مورتنسون بعد ذلك لبيع أدوات التسلق العزيزة على قلبه وبيع سيارته أيضاً. لكن حتى بعد بناء المدرسة، واظب مورتنسون على الذهاب إلى المنطقة. واليوم تتوفر منظمته، "معهد آسيا الوسطى"، على 74 مدرسة؛ أما هدفه الرئيس، فهو تدريس الفتيات. من أجل بناء مدرسة، يجب على القرويين توفير الأرض واليد العاملة كدعم محلي، وهو ما يفسر امتناع "طالبان" عن استهداف مدارسه حتى الآن. فمثلاً قامت غوغاء مناوئة للأميركيين في الآونة الأخيرة بتدمير كل ما وجدته على طريقها في بهاراك بأفغانستان، ولم تسلم حتى المنظمات الخيرية من عنفها، لكنها توقفت عند المدرسة التي كان السكان المحليون قد فرغوا من بنائها مع مورتنسون للتو، حيث قال زعيم الجماعة لأتباعه: "هذه مدرستنا"، فلم يمسها أحد بأذى. بيد أن مشوار مورتنسون لم يكن خالياً من الانتكاسات والمضايقات، حيث تعرض للاختطاف ثمانية أيام في منطقة وزيرستان الباكستانية. وبالتالي فمن السذاجة الاعتقاد بأن بضع عشرات من المدارس ستغير الاتجاه في أفغانستان أو باكستان. لكن مورتنسون يلفت إلى أن "طالبان" تقوم بتجنيد الفقراء والأميين، ويجادل بأنه حين تكون النساء متعلمات، فالأرجح أنهن سيقمن بكبح جماح أبنائهن. ويذكر هنا أن خمسة من المعلمين الذين يعملون لديه هم أعضاء سابقون في "طالبان"؛ ويقول مورتنسون إن أمهاتهم هن اللائي أقنعنهم بمغادرة "طالبان"، وهو ما يفسر حرصه على تعليم الفتيات. لنتخيل أن الولايات المتحدة أولت اهتماماً أقل للقصف والتفجير في المناطق القبلية الباكستانية واهتماماً أكبر للعمل عبر المنظمات الخيرية على بناء المدارس، مع العمل في الوقت نفسه على خفض التعرفات الجمركية على الصادرات الباكستانية والأفغانية. صحيح أنه لن يكون ثمة عائد فوري، لكن باكستان أحسن تعلماً وأكثر انتعاشاً اقتصادياً، ستكون أكثر مقاومة للتطرف. وفي هذا السياق يقول مورتنسون، والذي سبق أن عمل في الجيش: "إن المدارس أكثر فعالية من الصواريخ أو ملاحقة بعض أعضاء طالبان". فكل صاروخ "توماهوك" تطلقه الولايات المتحدة في أفغانستان يكلف 500000 دولار على الأقل، وهو مبلغ كاف لكي تقوم منظمة خيرية محلية ببناء أزيد من 20 مدرسة، علماً بأن هذه المدارس ستكون أنجع وأكثر فعالية ضد "طالبان" على المدى البعيد. وقد طلبت "البنتاجون"، والتي لديها فهم أفضل لحدود القوة العسكرية مقارنة بإدارة بوش عموماً، نسخاً كثيرة من كتاب "ثلاثة فناجين شاي" ووجهت دعوة لمورتنسون من أجل إلقاء كلمة. وفي هذا السياق قال الليفتانت كولونيل كريستوفر كوليندا، الذي يعمل على خطوط الجبهة الأفغانية في بريد إلكتروني تحدث فيها بحماس عن عمل مورتنسون: "أنا مقتنع بأن الحل بالنسبة لمعضلة الإرهاب على المدى البعيد بصفة عامة، وفي أفغانستان بصفة خاصة، هو التعليم"، مضيفا قوله: "الفوز في الحرب هنا لن يتم بواسطة القنابل، وإنما بواسطة الكتب... إن الحاجة للتعليم هنا واضحة وملموسة". مما لا شك فيه أن القوة العسكرية ضرورية وأساسية في أفغانستان من أجل محاربة "طالبان"، إلا أن أفضل علاج ضد التطرف والأصولية في باكستان وأفغانستان على حد سواء هو التعليم والفرص الاقتصادية. وبالتالي، فيجوز القول إن واحدا من سكان مونتانا نجح بمفرده في القيام بأكثر مما قام به الجيش وجهاز السياسة الخارجية التابع لإدارة بوش بخصوص خدمة مصالح الولايات المتحدة في المنطقة. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"