خروج جماعة من معلمي ومعلمات الإمارات مصطحبين النساء والأطفال، للاعتصام أمام مبنى وزارة التربية والتعليم بإمارة دبي، حاملين يافطات، باللغتين العربية والإنجليزية، وأمام عدسات الفضائيات ووكالات الأنباء العالمية، للتعبير عن احتجاجهم على نقلهم من وظائفهم التدريسية وإبعادهم عن حقلهم التربوي إلى وظائف مكتبية أخرى لا تتناسب ومؤهلاتهم، بسبب توجهاتهم الفكرية وانتماءاتهم السياسية لجماعة دينية... هذا الخروج الذي سمي "اعتصام المعلمين" هو في حد ذاته "موقف" سياسي بحت وإن تم تحت شعار "رفع مظلمة"، وهدفه حشد رأي عام متعاطف وداعم لتوجهات هذه الجماعة السياسية، وأيضاً ممارسة نوع من الضغط السياسي على متخذ القرار للتراجع عن قراره وإعادة هؤلاء المعلمين إلى منابر التوجيه والتربية والتثقيف والتأثير. ومن هنا فإن سماح السلطات الرسمية بدولة الإمارات بمثل هذه التظاهرات، دليل حيوية النظام السياسي الإماراتي والتزامه بحريات التعبير في كافة أشكالها حتى وإن وصلت للاعتصام السلمي، وهذا أمر يصب في مصلحة النظام السياسي، وإن خطَّأ البعض الاعتصام. ومن ناحية أخرى يدل الحدث على ثقة متخذ القرار بسلامة قراره وتجرده وموضوعيته، إذ لا يوجد ما يخشى ظهوره علناً أمام الرأي العام المحلي والدولي. وهذا في تصوري منتهى الشفافية في القرارات الإدارية وقمة الشجاعة في المواجهة تجاه الأوضاع المعرقلة والمعوقة لاستراتيجية التعليم الجديدة من حيث رفع كفاءة المعلمين وتطوير المناهج وإحداث نقلة نوعية شاملة في البيئة التعليمية ومخرجاتها، بما يتسق والسياسات العامة للدولة. لكن هذا "الاعتصام" وبغض النظر عن دلالاته، حدث "غير مألوف" في حياة الخليجيين لا على المستوى السياسي، فنادراً ما يخرج المواطنون احتجاجاً ضد جهة عملهم، ولا على المستوى الاجتماعي إذ يصطحب المواطنون نساءهم وأطفالهم في التعبير عن احتجاجهم العلني، إذ عادة يقتصر الأمر على الرجال وحدهم، ومع تفهم كل ما قيل وبخاصة من قبل الناقدين لهذا "الاعتصام"، وأيضاً مع تفهمنا لوجهة النظر الأخرى ومبرراتها، إلا أن هذا الحدث غير المعهود -خليجياً- يطرح العديد من التساؤلات المهمة: التساؤل الأول: يتعلق بمدى أحقية أية جماعة أو فئة في الاعتصام احتجاجاً على ما تظنه "ظلماً" أو "اضطهاداً" مورس عليها من قبل جهة عملها. والأسئلة المطروحة هنا: هل من حق هذه الفئة الاتصال بمكاتب الوكالات الأجنبية لشرح مظلمتهم؟ ألا يعد ذلك نوعاً من الاستقواء بالخارج؟ ما هي نتائج وتداعيات الاعتصام على العمل وإنتاجيته -إذا أصبح أسلوباً عاماً في الاحتجاج- وبخاصة أن هناك المئات من القرارات الإدارية التي تتخذ من جهات العمل المختلفة يومياً، فيما يتعلق بالنقل من الوظائف، سواء بتغيير الوظيفة أو التقاعد أو العزل؟ التساؤل الثاني: يتعلق بحجم تأثير هذه الاعتصامات على متخذي القرار، وما إذا كان ذلك يشكل نوعاً من الضغط النفسي يجعلهم يترددون في اتخاذ قرارات تستوجبها مصلحة العمل إيثاراً للسلامة ودفعاً لـ"وجع الرأس"؟ التساؤل الثالث: لماذا اللجوء إلى أسلوب الاعتصامات لرفع "المظلمة" ما دامت الطرق القانونية متاحة أمام الجميع للطعن في القرار الإداري إذا شابه شيء من التعسف في استخدام الحق لتحقيق العدالة وتصحيح القرارات الإدارية الخاطئة؟ وإذا قيل إن حبال القانون طويلة، فهناك القنوات الشرعية المباشرة وعبر الأبواب المفتوحة للتواصل بين الحكام والمواطنين في دول الخليج. التساؤل الرابع: أليس من حق الجهة الإدارية المختصة، أن تتخذ من القرارات والإجراءات ما تراه مناسباً لتحقيق الأهداف المنوطة بها، وذلك بناءً على معايير كفاءة الأداء الوظيفي عبر مقاييس للتقييم مطبقة على الجميع وبخاصة أن هؤلاء المنقولين عن وظائفهم إلى وظائف أخرى، لم يضاروا مادياً في رواتبهم أو امتيازاتهم الوظيفية؟ التساؤل الخامس: ماذا يفعل المسؤول السياسي أمام فئة لا تريد الانسجام والتوافق مع استراتيجية جديدة للتعليم فرضتها ضرورات الانفتاح السياسي والثقافي والاجتماعي للدولة، وهي لا تكتفي بذلك بل تشن حرباً شعواء ضد الاستراتيجية عبر حملات "التشكيك" و"التجريح" بل و"التخوين"، تحت شعارات احتكار "الوطنية" و"الدين" وبحجة أنها "الوصية" على المناهج والتعليم كإرث احتكاري و"المسؤولة" عن صياغة عقول الأجيال القادمة و"المدافعة" الحصرية عن "الثوابت" ضد أخطار غزو الفكر الغربي والعولمة الخبيثة؟ ترى ماذا يفعل المسؤول -القيادي- أمام عقليات نصبت نفسها وصية على "الدين" و"الوطنية" و"ثوابت الأمة" عبر منهج شمولي وإقصائي للآخرين؟ التساؤل السادس: يتعلق بمسؤولية وزارات التربية والتعليم، والتي تعاظمت بسبب ضعف المخرجات التعليمية المؤهلة لخدمة أهداف خطط التنمية والارتقاء بمجتمعاتنا وتجاوزها هوة التخلف العلمي والتقني، ولقد ازدادت مسؤوليات تلك الوزارات بعد الاختراقات التي حققتها جماعات فكر التطرف في صفوف الطلاب الشباب، حيث نجحت في اصطياد الآلاف منهم وتجنيدهم في مشاريعها العدمية، وما ذلك إلا بسبب ضعف "المناعة" التعليمية وقلة "التحصين" الفكري للشباب، الأمر الذي يرجعه المراقبون إلى "الهيمنة" الفكرية لثلاثة تيارات أيديولوجية (قومية وماركسية وحركات متطرفة) تنازعت على المناهج على امتداد نصف قرن، وكانت الحصيلة النهائية فشلاً ذريعاً ومزدوجاً في كلا الميدانين: تحقيق أهداف التنمية وتهيئة المواطن المتصالح مع مجتمعه وعصره... فهل يقف المسؤول القيادي مكتوف اليدين أمام تحرير المناهج من القيود الأيديولوجية التي أثقلتها طويلاً وأفسدتها؟ التساؤل السابع: شهد المجتمع الخليجي بعد هجمات سبتمبر ظاهرتين خطيرتين: خطف المناهج وخطف المنابر، وتحركت الجهات المسؤولة في دول الخليج لمعالجة واحتواء أخطار الظاهرتين. في السعودية وفي أعقاب 11 سبتمبر، تم توقيف ألف داعية وإبعادهم عن المنبر الديني، كما تم تنظيم حملة لتأهيل 49 ألف إمام، إذ لا يكفي أن تصدر وزارات الأوقاف والشؤون الدينية تعاميم بنبذ التطرف والغلو والتشدد وتأكيد الوسطية والاعتدال ما لم يُبعد أئمة التطرف ويؤهل من عنده الاستعداد للتأهيل. وفيما يتعلق بخطف المناهج تحركت الوزارات المسؤولة بدول المنطقة بعدما أدركت أن تطوير المناهج -وحده- لا يحقق الأهداف المنشودة، لأن بعض المعلمين يقومون بـ"اختطاف المناهج" وتغييرها إلى مناهج متخلفة لا تساير روح العصر، وقد ثبت أن أكثر من انضموا إلى الجماعات المتطرفة من الشباب، خرجوا من رحم هؤلاء المدرسين الذين غسلوا أدمغتهم وملأوها بالأفكار الظلامية كما قال عبدالله باجبير، وقد بيّن الدكتور حمزة المزيني في مقاله "دعاة لا معلمين"، أن أحد أسباب ذلك أن المعلمين أصبحوا "دعاة" لا "معلمين". وفي مصر اضطر وزير التعليم الدكتور حسين بهاء الدين إلى طرد آلاف المدرسين المتطرفين في حينه. والسؤال هنا: ما مسؤولية الوزير المسؤول إذ اكتفى بتبرئة المناهج من المفاهيم التعصبية دون أن يحرك ساكناً ضد من يخطف المناهج لخدمة أجندة أيديولوجية؟