تكشفت فترتا حكم الرئيس جورج بوش خلال السنوات الثماني الماضية عن الكثير من الحقائق التي ستمثل لزمن طويل إرثاً صعباً، وستكون لها تداعيات ونتائج مريرة على المنطقة وشعوبها، من حروب مفتوحة في أفغانستان والعراق، إلى استعدادات بمزيج من التصعيد والتهويل، والعصا والجزرة، ودبلوماسية ليِّ الذراع والإكراه، مع إيران بسبب برنامجها النووي، وسط قرع متواصل لطبول حرب أخرى في منطقة سئمت حقّاً من الحروب والتصعيد. وكل ذلك ساهم في تراجع شعبية الولايات المتحدة إقليميّاً إلى مستويات دنيا، غير مسبوقة. وليس غريباً، والحال كذلك، أن تفشل واشنطن في كسب عقولنا وقلوبنا كعرب وكمسلمين. ولعل ما فاقم تردِّي العلاقة أكثر هو الأخطاء الكارثية التي نجمت عن الاستراتيجية والحسابات الأميركية الخاطئة من العراق إلى أفغانستان، ومن جوانتانامو و"أبوغريب" إلى محاربة "الإسلام الفاشي". وحتى حلفاء واشنطن لم ينجوا من سيل النقد والتجريح والسياسة "غير الودية" كما عبّر عن ذلك وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي في بيانهم ردّاً على تقرير "الاتجار بالبشر" الصادر عن وزارة الخارجية الأميركية مؤخراً. لقد عمّقت تركة بوش الثقيلة أفكار "المحافظين الجدد" المبالغ فيها، والتي أثبتت فداحة أخطائها تجاه الخصوم والحلفاء معاً. كما ساهمت سياسات "الفوضى الخلاقة" في إيجاد حالة غير مسبوقة من اللااستقرار والعنف، وزيادة معدلات وضحايا ومخاطر الإرهاب. وقد عززت الأخطاء والحسابات الخاطئة للاستراتيجية الأميركية، والحروب الاستباقية والغزوات والاحتلالات من نفوذ وتمدد إيران، التي ملأت الفراغ الاستراتيجي الذي كان نتاجاً طبيعيّاً لكل تلك المغامرات. ووسط كل هذا الاحتقان والصخب سيغادر الرئيس بوش البيت الأبيض مخلفاً إرث حروبه الثلاث في العراق وأفغانستان، و"الحرب على الإرهاب"، التي تطلق عليها الإدارة مجازاً ذلك التوصيف. وهو توصيف عائم، للأسف، لم يتم تحديده من المؤسسات الرسمية أو غير الرسمية الأميركية، سواء من الكونجرس الذي كان حزب الرئيس بوش، الحزب "الجمهوري"، يسيطر عليه مع بداية تداول ذلك المفهوم الخاطئ، أو من "الديمقراطيين" الذين أصبحوا حزب الأغلبية منذ يناير 2007، أو حتى من المؤسسة القضائية، أو الإعلام الأميركي الجريء والحُر والناقد عادة بشراسة للحروب والمغامرات الخارجية. إنه من الخطأ المنهجي أن يتم إطلاق تسمية "الحرب على الإرهاب" على جهود محاربة الإرهاب، لأن المستهدف ليس كياناً أو دولة أو خصماً معروفاً أو لديه موقع وجغرافيا محددة بإحداثيات واضحة، لكي تتم مهاجمته والقضاء عليه. كما أن تلك الحرب المفتوحة بالإضافة إلى خطأ التسمية فتحت أيضاً جبهات كثيرة، لم تنجح في إغلاقها، وشنت حروباً لم تستطع إنهاءها، وفاقمت بذلك المأزق الأميركي. والأخطر من هذا كله أن الحروب -وخاصة حرب العراق- عززت وتسببت، حسب تقييم أجهزة الاستخبارات الأميركية، في "خلق جيل جديد من الجهاديين، وزادت من العمليات الإرهابية". أي أن ما لدينا هو نتائج سلبية وخسائر صافية بعيدة عن النجاح المفترض أن يتحقق. والسؤال الكبير إذن: لماذا أطلقت الإدارة الأميركية تسمية "الحرب على الإرهاب" بدل "محاربة الإرهاب"؟war on terrorism وليس counter terrorism. الإجابة من البعد القانوني والاستراتيجي واضحة ومعروفة. فاستخدام تسمية محاربة الإرهاب يحرم إدارة الرئيس بوش من تبرير التجاوزات، وعدم تطبيق القانون الدولي، ومعاملة الخصوم كـ"مقاتلين أعداء" بدلاً من "سجناء حرب". وأيضاً لتسهيل إقناع الشعب الأميركي الذي مل وسئم الحروب، ويتلظَّى في الداخل من نتائج سياسة الإدارة التي فاقمت الوضع الاقتصادي، وغرقت في حروب بدون خط نهاية، حيث بات 80% من الأميركيين مقتنعين بأن بلادهم تسير في الاتجاه الخاطئ، وهي واحدة من أعلى النسب في تاريخ الولايات المتحدة. كما يشارك الكونجرس في هذه اللعبة بموافقته على التصنيف القائل إن أميركا في حالة "حرب"، ما يسمح لها بأن تتجاوز القوانين الأميركية، وتطبق قوانين الضرورة، ليجاري الكونجرس والإعلام بذلك إدارة بوش في توصيفها المُضلِّل. والحاصل أن إدارة الرئيس بوش سترحل عن المسرح السياسي الأميركي قريباً، ولكن إرثها سيبقى يؤرق المنطقة الشرق أوسطية طويلاً. وسيتعين على الإدارة الأميركية الجديدة التي سترث ذلك الإرث الثقيل، سواء أكانت "جمهورية" أم "ديمقراطية"، أن تعيد ترميم العلاقة مع المنطقة، وتعود بها إلى سياقها الصحيح. وسيكون على رأس الأولويات أيضاً إنهاء المغامرات والأخطاء، لعل ذلك يوقف مسلسل الكراهية لأميركا، حيث لم تساعدها سياسة الرئيس بوش لا على الانتصار في "الحرب على الإرهاب"، ولا في نيل تعاطف وتضامن أنظمة وشعوب العالم معها. وعسى أن يكون رحيل إدارة بوش هو البداية لمصالحة واشنطن مع نفسها، ومع العالم، ولتنخرط في جهود تصفية إرث من الحروب الاستباقية والنتائج الكارثية.