مانديلا: رمزٌ على "قائمة الإرهاب"!



أسماء أخرى ومؤسسات جديدة تُضاف بين حين وآخر إلى قائمة الإرهاب الأميركية، لكن اسماً شهيراً أسقط منها وتفاجأ الكثيرون بذلك، إذ قلّ من يعلم أصلاً أن نيلسون مانديلا، الزعيم التاريخي والرئيس الجنوب أفريقي السابق، كان مدرجاً على قائمة الإرهاب الأميركية! ففي يوم الأربعاء الماضي وقّع الرئيس الأميركي قراراً بشطب اسم مانديلا وعدد من قادة النضال التحرري السابق في جنوب أفريقيا، كخطوة نحو "التخلص من عار الحط من شرف هذا الزعيم الكبير"، حسب مسؤول في البيت الأبيض. لكن القرار لا يلغي الاستثناء المفروض على سفر مانديلا إلى الولايات المتحدة، إذ لا زال يتعين عليه نيل إذن خاص من وزارة الخارجية الأميركية لدخول أراضي الولايات المتحدة، وذلك لزيارة مقر الأمم المتحدة في نيويورك حصراً، وليس أي مكان آخر من التراب الأميركي. جاء القرار مقيداً، لكنه جاء متأخراً كذلك، أي بعد أيام فقط على إكمال الزعيم التاريخي عامه التسعين، وهي مناسبة احتفل بها الآلاف وحضرها عدد كبير من نجوم الفن والرياضة والمثقفين والساسة، في حديقة "هايد بارك" وسط لندن.

شارك "حزب المؤتمر الأفريقي" بقيادة مانديلا في أول انتخابات متعددة الأعراق تشهدها جنوب أفريقيا عام 1994، ليحقق انتصاراً ساحقاً، وليصبح مانديلا في مايو من ذلك العام أول رئيس أسود لجنوب أفريقيا. وخلال فترة حكمه، شهدت جنوب أفريقيا انتقالاً كبيراً من حكم الأقلية إلى حكم الأغلبية، وذاق ملايين الناس طعم الديمقراطية لأول مرة، وحافظت البلاد على تقدمها الاقتصادي بفضل نجاحه في الإبقاء على الشركات والاستثمارات الكبرى في جنوب أفريقيا خلال فترة ما بعد نظام التمييز العنصري.

وأخيراً أراد مانديلا تَجنُّبَ انحرافات "الزعامة التاريخية" وأمراضها التي أفشلت تجارب حكم الحركات التحررية في العالم النامي، فتنحى عن رئاسة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم لخليفته ثابو مبيكي عام 1997، واستمر في منصبه كرئيس للبلاد، لكنه تقاعد طوعياً عن العمل السياسي بمجرد انتهاء ولايته الأولى صيف عام 1999.

رئاسة مانديلا لم تضف إليه شيئاً ذا بال، فقد سبق أن ذاع صيته كأبرز مناضل ومقاوم لسياسة التمييز العنصري في جنوب أفريقيا طوال خمسة عقود، خاصة بعد أن نجح بفضل شجاعته وقيادته في كسر معقل التمييز العنصري، محولاً بلاده إلى نموذج للديمقراطية والتعدد العرقي.

في مشهد مهيب ومثير للعاطفة، عشية بدء الألفية الثالثة، زار مانديلا إحدى الزنزانات التي تنقل بينها خلال 27 عاماً، وكان خلالها أشهر سجين سياسي في العالم. اعتقل مانديلا للمرة الأخيرة في أغسطس 1962، اثر عودته سراً من رحلة قادته إلى أديس أبابا والجزائر ولندن، وكانت التهمة الموجهة ضده هي "مغادرة البلاد بطريقة غير قانونية"، فحكم عليه بالسجن 5 سنوات. ثم واجه في عام 1964 تهمة التخطيط من داخل السجن لإضرابات وأعمال مسلحة، وصدر ضده حكم بالسجن مدى الحياة.

أصبح مانديلا مصنفاً في خانة "أعداء من الدرجة الأولى" عقب توليه قيادة الجناح المسلح لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي عام 1961، وذلك حين اضطر الحزب لتغيير استراتيجيته بعد مذبحة "شاربفيل" عام 1960 التي ارتكبتها الشرطة ضد متظاهرين سود، إذ قرر مانديلا وزعماء المؤتمر الوطني فتح باب المقاومة المسلحة، فردت سلطات لابارتهايد بقرار يحظر نشاط الحزب، ونجحت في إلقاء القبض على مانديلا، لكنه نال حكماً بالبراءة، ثم لم تلبث المحكمة أن أصدرت أمراً جديداً بإعادة اعتقاله، فاضطر للاختفاء والعمل السري.

أكمل مانديلا دراسته الجامعية على مراحل متقطعة وفي ظروف مضطربة للغاية، وذلك بسبب نشاطه في حزب المؤتمر الوطني الأفريقي؛ فقد فُصل من جامعة "فورت هار" عام 1940، بسبب قيادته إضراباً طلابياً، ثم حاول إكمال دراسته في جامعة جوهانسبيرغ عن طريق المراسلة، لكنه لم يستطع التخرج منها إلا في عام 1949 حيث نال شهادة الليسانس في القانون ليصبح محامياً يكرس وقته للمرافعة عن رفاق نضاله أمام المحاكم.

ولد مانديلا عام 1918 في إقليم الترانسكاي على ضفاف نهر ألمباشي في جنوب أفريقيا، وعاش بعد وفاة والده في كنف زعيم قبيلته "الخوسا"، وهي ثاني أكبر قبيلة في البلاد بعد "الزولو" وتشكل بتعدادها البالغ 6 ملايين نسمة، القاعدة الرئيسية لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي.

وفي كتاب سيرته الذاتية "المسيرة الطويلة نحو الحرية"، يستذكر مانديلا حياته مع أقرانه في الأودية والمرتفعات، ورعيه الماشية في سن الخامسة، ثم دخوله المدرسة النظامية المخصصة للسود في سن السابعة، حيث منحته المعلمة اسماً إنجليزياً هو "نيلسون" الذي حل محل اسمه الأصلي "روليهلالا" وعُرفَ به حتى اليوم، وأصبح اسماً -رمزاً يرادف القضية.

في أواخر الثمانينيات تضاعفت الضغوط الداخلية والخارجية من أجل إطلاق سراح مانديلا، وفي بداية عام 1990 قرر الرئيس الجنوب أفريقي "فريدريك كلارك" إلغاء قرار الحظر على المؤتمر الوطني الأفريقي، وفي يوم 11 فبراير من ذلك العام، غادر مانديلا بوابة السجن تحت أضواء الكاميرات في مشهد تدفق الملايين لرؤيته.

لم يترك الكفاح ضد نظام الأبرتهايد لمانديلا إلا القليل من الوقت للاهتمام بحياته العائلية، فقد أنجب أربعة أبناء من زوجته الأولى (توفي منهم اثنان)، وابنين من زوجته الثانية "ويني" التي حشدت التأييد للإفراج عنه خلال سنوات سجنه، لكنه انفصل عنها عقب اتهامها بالتورط في أعمال خطف واعتداء، ليتزوج وهو في سن الثمانين من "جاركا ساشيل" أرملة الرئيس الموزمبيقي الراحل.

إلا أن مانديلا لم يسْلم من انتقادات وجهت له خلال رئاسته، فرغم مهاراته السياسية لم يستطع علاج كثير من المشكلات الاجتماعية المزمنة في جنوب أفريقيا، مثل إسكان الفقراء، وانتشار وباء الإيدز، والمعدلات العالية للجريمة والعنف... لكن قراره الانسحاب من الرئاسة مبكراً، والتفرغ للعمل الخيري، حافظ له على مكانته التاريخية وعلى صورته في أذهان الكثيرين، الصورة التي لم ينل منها وجوده سابقاً على قائمة الإرهاب الأميركية!



محمد ولد المنى