من يقرأ الواقع الراهن في المشرق العربيّ يمكنه الرجوع إلى مرحلته التأسيسيّة في الستينيات. فهناك، في أغلب الظنّ، تمّت بلورة، وتمّ تحديث، الفارق القائم بين اللغة والواقع، وبين الوحدة الكلاميّة والتفتّت الفعليّ. ومنذ ذلك الحين والوجهة هذه تنمو وتتعاظم إلى أن غدت اليوم تهدّدنا بالابتلاع. فبعد أشهر على انهيار الوحدة المصريّة- السوريّة بنتيجة انقلاب أيلول (سبتمبر) 1961، كان التدخّل العسكريّ المصريّ الكثيف في اليمن دعماً لانقلاب جمهوريّ قاده العقيد عبدالله السلاّل، فيما تولّت المملكة العربيّة السعوديّة الدفاع عن النظام الإماميّ القديم. تلك المواجهة في اليمن كانت بمثابة أوّل حرب أهليّة عربيّة- عربيّة واسعة بعد نشأة الدول المستقلّة الحديثة. وإذا كان الطرفان قد تبادلا استخدام الإسلام، كلٌّ منهما لتوكيد أنه هو الممثل الحقيقيّ للدين وتعاليمه، فقد ربطت القاهرة، المتحالفة مع موسكو، موقفها بالصراع مع "الرجعيّة" و"عملاء الاستعمار"، ومن ناحيتها، وفي أجواء الحرب الباردة، أكّدت الرياض وحلفاؤها على وحدة المعركة مع التصدّي للشيوعيّة وللتدخّل المصريّ في شؤون بلد مستقلّ هو اليمن. وانقادت السعوديّة بخوفها من الاقتراب المصريّ من حدودها، لاسيّما في 1966، إلى العمل على تكتيل الدول الإسلامية المحافظة ضد الناصريّة والشيوعيّة، وهو الجهد الذي سمّاه خصومها "الحلف الإسلاميّ". لكنْ ربما كان أهمّ ما دلّت إليه حرب اليمن استحالة جمع العرب على قضيّة الصراع مع إسرائيل بوصفها قضيّة مشتركة بينهم. بطبيعة الحال وجد كل طرف طريقته الخاصّة به في ربط معركته من أجل النفوذ بالمسألة الفلسطينيّة: فالقاهرة ومن ورائها "التقدميّون" العرب رأوا أن الطريق إلى تحرير فلسطين تمرّ باليمن، لأنه لا يمكن تحقيق "وحدة الصفّ" العربيّ قبل إنجاز "وحدة الهدف". فما دام أن "الرجعيّين" يقيمون في داخل البيت العربيّ، لن يمكن التقدّم نحو مواجهة إسرائيل قبل تصفية الحساب معهم. فهم، "موضوعيّاً" حلفاء إسرائيل والقوى الغربيّة. وفي المقابل، بدت اللغة "الرجعيّة" تتمتّع بدرجة أعلى من الحكمة والمصداقيّة داخل هذا النقاش الزائف، إذ كيف يمكن تفتيت العرب وإضعافهم على هذا النحو ثم زعم التقدّم لمحاربة إسرائيل؟ هكذا، و"موضوعيّاً" أيضاً، أمكن القول إن سياسات عبدالناصر تفيد الدولة العبريّة بتحويل الأنظار عنها، وتبديد قوّة العرب في مواجهة كانوا في غنى عنها. كان واضحاً أن الطرفين المتنازعين ينطلقان من مقدّمات واحدة. لكنْ كان واضحاً أيضاً أن المعركة الفعليّة تدور في مكان لا يتحدّث عنه أحد لأنه يتصل بسياسات الدول ومصالحها. ذاك أن انتقال عشرات آلاف الجنود المصريّين إلى اليمن يضع براميل وحقول النفط السعوديّة والخليجيّة تحت رحمة عبدالناصر ونظامه العسكريّ النهم للموارد. والمسألة بعمقها أصبحت تشير إلى حصول تفاوت هائل بين السياسات والمصالح من جهة، وبين اللغة المستخدمة للتعبير عنها من جهة أخرى. فما بدأت تقوله حرب اليمن فعليّاً، وهو ما راحت نبرته تتزايد سنة بعد سنة، أن فلسطين والإسلام ما عادا، في زمن الحداثة والدول الوطنيّة، كافيين للتعبئة ولخدمة المصالح الفعليّة. إلا أن هذه الأخيرة لم تنتج لغة صادقة تعبّر بها عن نفسها، لا في معسكر "التقدميّين" ولا في معسكر "الرجعيّين". لقد جاءت المغامرة المصريّة في اليمن بدعم انقلاب عسكريّ، ردّاً على التضييق على مصر بنتيجة انفصال سوريّا عنها. وهو انفصال كان مدعوماً من الدول "الرجعيّة" التي تناوئ سياسات عبدالناصر وتخشى طموحاته التوسعيّة. هكذا سُدّدت ضربة مصريّة لتضامن العرب باسم قوميّة عربيّة لا تستفيد منها اقتصاديّاً واستراتيجيّاً إلاّ دولة عربيّة واحدة بعينها، هي مصر. غير أن تناقض الكلام السياسيّ مع الواقع عثر على مسارح أخرى في الشرق الأوسط العربيّ. ففي 8 فبراير و8 مارس 1963 وصل عسكريّو حزب "البعث" في العراق وسوريّا إلى السلطة عبر انقلابين عسكريّين. وقد سجّل الانقلابان انهيار حكم الأعيان التقليديّين في البلدين، فيما وفّرت القوميّة العربيّة رايةً لاستيلاء شرائح دنيا للطبقة الوسطى، ريفيّة في أغلبها، على الحكم. لكن استيلاء حزب "البعث"، الذي يشارك عبدالناصر ولاءه اللفظيّ للقوميّة العربيّة، على سلطتي بلدين، لم يساعد الزعيم المصريّ بل زاد في متاعبه. ففي البداية، ناور "البعث" في البلدين بإعلان رغبته في إقامة وحدة أخرى، ثلاثيّة هذه المرة تجمع بين مصر والعراق وسوريّا، وبعد مفاوضات مضنية أمكن في 17 أبريل 1963 توقيع اتّفاق لإقامة الوحدة الثلاثيّة العتيدة. لكن الغرض الفعليّ كان توطيد قبضة البعثيّين على السلطة وكشف المؤيّدين لعبدالناصر ممن تمّت تصفيتهم تباعاً. فقد شرع "البعث" يصفّي الناصريّين والضبّاط غير البعثيّين في دمشق وبغداد دافعاً الزعيم المصريّ إلى التنصّل من تعهّد الوحدة الثلاثيّة. وبدأ "البعث" يخوض سجالاً غير مسبوق في حدّته واتهاميّته مع عبدالناصر، فوصلت الاتّهامات الحادّة التي وجهتها العاصمتان البعثيّتان للقائد المصريّ إلى حدّ رميه بمعاداة الوحدة والتفريط بفلسطين وبتحريرها، ودليلهما على ذلك قبوله بالقوات الدولية في شرم الشيخ وخليج العقبة كتسوية لحرب 1956. لكن أحوال "البعث" لم تكن أفضل من حال عبدالناصر: ففي 18 نوفمبر 1963 قام شركاؤهم في حكم العراق، وعلى رأسهم رئيس الجمهوريّة عبدالسلام عارف، بانقلاب عسكريّ أطاحهم ونقل النظامين العسكريّين في سوريّا والعراق إلى نظامين متناحرين متعاديين. وبعد فترة زمنيّة وجيزة، وتحديداً في 23 فبراير 1966، قام البعث العسكريّ والمتأثّر ببعض الشعارات والعناوين الماركسيّة بانقلاب على الرفاق المدنيّين، بمن فيهم مؤسّس الحزب ميشيل عفلق. وقد وصف الصحافي اللبناني كامل مروة ما حصل يومذاك بـ"الصراع بين أبناء القرية وأبناء المدينة، وبين الأقليّات العلويّة والإسماعيلية والدرزيّة وبين السُّنّة من المسلمين"، ورأى أن الجيش منذ "اقتنص" الحكم، "تلبّسه هذا الصراع وانقسمت وحداته انقساماً طائفياً". (الحياة 24/2/1966). ومن ناحية أخرى، فحزبيّو العراق الذين كانوا في المعارضة لحكومة بلدهم أعلنوا ولاءهم للقيادة الحزبيّة المدنية التي أُطيحت في دمشق. وكان هذا تعبيراً مُحوّراً ومداوراً عن موقف وطنيّ عراقيّ وجد طريقته الملاءمة للاستقلال عن القيادة السوريّة. لكنه كان أيضاً، وهو ما نستطيع أن نفهمه من تاريخ العراق اللاحق، تعبيراً مُحوّراً ومداوراً عن رفض السُّنّة البعثيّين العراقيّين السير وراء قادة سوريّين من غير طائفتهم، ولو كانوا من حزبهم. وعلى العموم، قدّمت لنا الستينيات المشرقيّة لوحة ناصعة عن المسافة بين القول المُعلن والرغبة المقصودة، بين اللغة والواقع، وبين الوحدة التي تردّدها القصائد والتفتّت الذي تستحضره الحياة.