المؤرخ الفرنسي "جاك بينفيل" علق في إحدى المرات قائلاً: "لم تتقدم الأمور على النحو المنشود"، وهو بلاشك تذكير بالوضع الذي وصله العالم اليوم، لكن مع ذلك أعتقد أن آفاق المستقبل هي أكثر قتامة اليوم مما كانت عليه قبل عشرة، أو عشرين عاماً. وبالطبع، سيبدو العالم وردياً بالنسبة للزعيم الشيوعي في بكين، أو بالنسبة لتاجر المخدرات في أفغانستان، والحاكم المستفرد بالسلطة في موسكو، ذلك أن الأمر يعتمد بشكل كبير على المكان الذي توجد فيه والزاوية التي تنظر منها إلى الأشياء. وبالنسبة لي مثلاً، فأنا أريد لأبنائي أن ينعموا بنفس درجة الحرية التي عشت فيها، وأن يظل بلدهم منفتحاً وديمقراطياً، لكني أريد أيضاً أن يجرب أكبر قدر ممكن من البشر الحرية في بلدان أخرى. ولا يعني ذلك الاستفادة فقط من الحريات التقليدية في المجالين المدني والسياسي، بل أن تصاحبها أيضاً شروط أساسية من الأمن الشخصي والقانوني والاقتصادي، وأن تتوفر فرص متساوية للتعليم والارتقاء. والحقيقة أنه من هذه الزاوية بالتحديد تبدأ قتامة الأشياء في الظهور. فقد تراجعت الحرية في بريطانيا خلال السنوات الأخيرة، والسبب هو في جزء منه يعود إلى خطر الإرهاب، وفي جزء آخر إلى ردة الفعل المبالغ فيها من قبل الدولة، ناهيك عن الاضطرابات الاقتصادية التي لا تساعد على تكريس الحرية وازدهارها. أما في باقي العالم، فمازالت تخيم التحديات الكبرى على الدول والحكومات مثل التغير المناخي والفقر والأمراض الفتاكة والتنافس على الطاقة والغذاء، بالإضافة إلى السياسات الحكومية الخاطئة لتزج بمئات الملايين من الناس في أتون الشك إزاء ما يخبئه لهم المستقبل. والأكثر من ذلك أن التغييرات التي تشهدها القوى العالمية لا تساعد على بث الطمأنينة في النفوس وإرجاع الثقة إلى مبادئ الحرية الراسخة. فعلى سبيل المثال أعطت ميانمار وزيمبابوي في الأشهر الأخيرة النموذج الأوضح على مدى عجز أصدقاء الحرية في مواجهة جيرانهم الأقوياء، وكيف أنهم وضعوا مفهوم السيادة ومصالحهم السياسية والاقتصادية فوق المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان في البلدان المعنية. وقد رأينا كيف يسير "موجابي" مزهواً بنفسه يعانق قادة الدول أثناء انعقاد قمة الاتحاد الأفريقي. وبالموازاة مع ذلك، نشاهد كيف تتلاقى النماذج التقليدية للأنظمة السلطوية مع أخرى جديدة تمثل الشمولية الرأسمالية مثلما يجري حالياً في الصين وروسيا. ويبدو أن الديمقراطيات غير الغربية تنظر إلى جوارها غير الديمقراطي بنفس الدرجة التي كانت تنظر بها القوى الاستعمارية الأوروبية إلى مسألة الحرية في مستعمراتها. وكأن القصور في الديمقراطية والحرية لا يكفي، حيث تبرز مشاكل أخرى مرتبطة بآفاق السلام في العالم، لاسيما في ظل المواجهة بين إيران وإسرائيل حول الملف النووي، وتراجع احتمالات التسوية بين الإسرائيليين والفلسطينيين مقارنة بما كان سائداً قبل عقد من الزمن عندما انتعشت آمال السلام وإنهاء الصراع. والواقع أن الغرب، وإزاء كل هذه التحديات التي تحيق بالعالم، تبنى استراتيجية مزدوجة تتراوح بين اتخاذ موقف هجومي أحياناً يمكن أن نطلق عليه "مقاربة الحملة" وموقف دفاعي في أحيان أخرى هو أقرب إلى مقاربة "بناء الأسوار". فخيار ما يسمى بالحملة هو الذي طبقه الرئيس بوش في العراق وأثبت محدوديته لكل مراقب، لذا ينتقل التركيز اليوم أكثر على المقاربة الحمائية. وحسب المقاربة الأخيرة التي تنهل من خطاب الخوف والانغلاق الثقافي يتعين إحاطة الحضارة الغربية بسور عال ومنيع للحؤول دون تسرب أكبر عدد ممكن من الأجانب والبضائع والأفكار. ووفقاً لهذه المقاربة أيضاً، فإنه لامجال لتغيير مواقف الدول الإسلامية وروسيا والصين والسعي إلى إقناعهم بجدوى الحرية وأهميتها بالنسبة للتطور البشري، ذلك أنه بمجرد انتمائهم إلى حضارة مختلفة يحول دون تبنيهم لقيم الحرية والانعتاق. وأفضل ما يمكن أن نطمح إليه بموجب هذه النظرة هو الوصول إلى هدنة مسلحة مع الآخر على قاعدة: "لكم طريقكم ولنا طريق". وللخروج من هذا التصور القاتم، أقترح نظرة أكثر تفاؤلاً تجمع بين الوطنية الليبرالية في الداخل، والليبرالية العالمية في الخارج. فمن الواضح، بالنسبة لي على الأقل، أن الحرية الفردية للإنسان لم تتحقق بشكل كامل إلا في حضن الدولة القومية الحديثة التي تعتمد الليبرالية الديمقراطية، ومن هذا المنطق أتفق مع العديد من المحافظين الذين يطالبون بتعزيز الدولة القومية وليس إضعافها. وبدلاً من بناء الأسوار المنيعة لوقف تدفق المهاجرين، علينا أن نتعلم إدارة الاختلاف ومعالجته، وبالنسبة لمن يريد أن يعيش في بلداننا عليه أن يتحول إلى مواطن كامل وليس مجرد مقيم، بحيث يتمتع المهاجر الشرعي بنفس الحقوق التي يستفيد منها الآخرون. لكن بما أننا لا نستطيع في مجتمعاتنا المتنوعة الاعتماد فقط على التفاهمات الضمنية، فإنه علينا تسطير الحقوق والواجبات على نحو واضح. ومن بين الأسئلة التي تنتظر الإجابة: ما هي شروط الحرية غير القابلة للنقاش؟ وما هي تلك المناطق الرمادية التي يمكن الحديث بشأنها؟ ثم ما هي الأمور التي تندرج في إطار الضمير الفردي؟ والحقيقة أن هذه الأسئلة وغيرها يتعين إخراجها إلى العلن وإخضاعها لنقاش عام بعيداً عن أي تعليمات تمليها النخبة على الجماهير، أو تفرضها الأغلبية على الأقلية. ومع ذلك تبقى الجهود المبذولة داخلياً لتكريس الليبرالية الديمقراطية والاتفاق على تفاصيلها غير كافية في وقت لم يعد فيه مجدياً بناء الحصون الوطنية، لذا لابد من تمديد الليبرالية إلى الخارج لاستكمال نظيرتها في الداخل. ولا تعني الليبرالية العالمية الزحف على البلدان وتلقين الشعوب ما يتعين عليها فعله، بل تعني فقط صياغة مجموعة من القواعد والتفاهمات التي ستلتزم بها معظم البلدان. ولا تخرج هذه القواعد عن ما هو متعارف عليه من مبادئ أساسية لحقوق الإنسان. وبالنسبة للذين يقولون إن الليبرالية مجرد محاولة استعمارية جديدة لتصدير الأفكار الغربية أقول أولاً إن هناك العديد من القواسم المشتركة بين المجتمعات والشعوب، وثانياً إن قيماً مثل الحرية والتسامح ومساءلة الحكومات موجودة في الفلسفات والأدبيات غير الغربية سواء في المبادئ الكونفوشيوسية للصين، أو في مقاصد الدين الإسلامي. تيموثي جارتون آش أستاذ الدراسات الأوروبية في جامعة أكسفورد ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"