ماذا كان سيقول "تيودور هيرتزل"، عراب الحركة الصهيونية، عن إسرائيل اليوم؟ لا شك أنه لو امتد به العمر كان سيجد دولة إسرائيلية يصل التباين بينها إلى حد وجود كيانات متعددة ومنفصلة عن بعضها بعضا داخل الدولية الواحدة. هذه هي الخلاصة التي يخرج بها "برنار أفيشاي"، الأستاذ السابق في جامعة "دوك" الأميركية، في كتابه "الجمهورية العبرية: كيف يمكن للديمقراطية العلمانية والمشاريع العالمية أن تجلب السلام أخيراً لإسرائيل". فالكاتب ينطلق من الواقع السياسي الحالي للدولة اليهودية وما يعتريه من قصور في التطور الديمقراطي، ليطرح تصوره الداعي إلى تقليص الطابع اليهودي للدولة وإحلال مكانها ما يسميه "الجمهورية العبرية"، حيث يتراجع الدين إلى الفضاء الخاص ويتم التركيز، عوضاً عن ذلك، على الثقافة العبرية غير الإقصائية التي تفسح المجال لغير اليهود للمشاركة الفعالة في الحياة السياسية. لكن قبل الوصول إلى هذه النتيجة يبدأ الكاتب برصد الواقع ويرى أن هناك أكثر من إسرائيل، وأكثر من تصور لطبيعة الدولة. فمن جهة هناك إسرائيل الدولة الفاعلة على الساحة الدولية والموقعة على اتفاقات السلام مع مصر والأردن، ومن جهة أخرى هناك الدولة الصهيونية التي تتحرك من داخل الدولة نفسها والسابقة على قيام إسرائيل عام 1948، حيث تجسدت في الوكالة اليهودية والصندوق القومي اليهودي الذي لعب دوراً كبيراً في شراء الأراضي وتخصيصها للمهاجرين الجدد إلى فلسطين. كما أن هناك تجمع "حاريدي"، وهو شبه دولة يديرها اليهود الأرثوذوكس من خلال نظام تعليمي خاص قائم على شبكة من المدارس الدينية، وأخيراً يميط الكاتب اللثام عن وجه آخر لإسرائيل تظهر من خلاله حركة المستوطنين المتشددين الذين يصادرون الأراضي الفلسطينية، ويتلقون أموالاً من الحكومة لبناء الطرق الالتفافية ومد شبكات الماء والكهرباء. فهل تستطيع إسرائيل في ظل واقعها الحالي أن تجمع بين طبيعتها اليهودية، وبين مستلزمات الديمقراطية ومعاييرها المتعارف عليها عالمياً؟ يقول الكاتب إنه للوهلة الأولى تأتي الإجابة سهلة وبالإيجاب دائماً، جرياً على تأكيدات إسرائيل نفسها بالإضافة إلى التقييمات الغربية التي لا تني تنعت إسرائيل بالديمقراطية الوحيدة في المنطقة. فالحكومات تفرزها صناديق الاقتراع ويشارك في الانتخاب جميع أفراد الشعب ومكوناته، بمن فيهم مليون وربع مليون عربي الذين يعيشون في "إسرائيل"، هذا إضافة إلى وجود قضاء مستقل وصحافة حرة، فضلاً عن المجتمع المدني الذي يتميز بالنشاط والفاعلية. لكن مع ذلك لا يتمتع غير اليهود بنفس الحقوق المدنية ولا يعاملون على قدم المساواة مع المواطنين اليهود، وذلك كما يشير الكاتب بسبب طغيان التصور الديني على المجتمع وتمحور الهوية الوطنية حول اليهودية. وفي هذا السياق من عدم المساواة التي تكرسها يهودية الدولة، يصبح من المستحيل على غير اليهود شراء الأراضي التي تملكها الدولة، كما لا يوجد زواج مدني في إسرائيل، حيث يسيطر اليهود الأرثوذوكس على جميع الطقوس المدنية بما فيها تحديد من هو يهودي، ما يعطيهم حق تحديد من هو المواطن. واللافت في إسرائيل، حسب الكاتب، أنها الدولة الوحيدة في العالم التي لا تعترف بجنسيتها، بحيث لا يُسجل المواطنون في الوثائق الرسمية على أنهم إسرائيليون، بل يُشار إلى ديانتهم، أو أصولهم العرقية. وقد قوبلت جميع المحاولات، سواء من قبل اليهود أو العرب، للإشارة إليهم كإسرائيليين فقط، بالرفض من قبل الحكومة، لأن ذلك في نظرها يقوض الطبيعة اليهودية لإسرائيل. وفيما أنفقت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، سواء في اليمين أو اليسار، 15 مليار دولار على المستوطنات خارج حدود 1967، تعاني القرى والبلدات العربية من التهميش والإقصاء وانعدام الخدمات البلدية. ويحذر الكاتب من مغبة انعدام المساواة بين العرب واليهود، موضحاً أن العرب اليوم لا يوظفون الحريات المتاحة لهم للاندماج في المجتمع والتحول إلى مواطنين إسرائيليين، بل لبلورة وعي قومي عربي آخذ في التنامي. والحل الذي يطرحه الكاتب على الدولة الإسرائيلية هو تطوير وعي قومي جديد وهوية خاصة لا تقوم على الدين، بل على كون المواطنة فقط، وبهذا المعنى يدعو الكاتب إلى إلغاء جميع الامتيازات المخصصة لليهود وتحويل إسرائيل إلى ديمقراطية حديثة قائمة على المساواة بين مواطنيها. وفي حال أصبح المواطنون في إسرائيل مجرد إسرائيليين، بصرف النظر عن ديانتهم، ستتخلص الدولة من "الخطر الديموغرافي" وستضمن بقاءها. وفي نفس الوقت سيكون من حق إسرائيل الجديدة أن تطلب إلى مواطنيها العرب إبداء ولائهم المدني للدولة من خلال المشاركة في أنشطة وطنية تخدم الصالح العامة. هذه الهوية الجديدة للإسرائيليين يرى الكاتب أنها لن تكون مشروطة بالدين، بل ستعتمد على اللغة والثقافة العبرية المشتركة، وعلى تمتين العلاقات الاقتصادية مع المحيط العربي، وأيضاً على العيش المشترك في نفس الحيز الجغرافي. لكن الكاتب في خضم تبشيره بإسرائيل جديدة أكثر علمانية وديمقراطية، ترتكز على صيانة الحقوق المدنية لمواطنيها كافة، اليهود منهم والمسلمون والمسيحيون، يغفل عن حقائق أهمها سياسات التهويد التي كرست الطابع الأحادي للدولة الإسرائيلية، وما دأبت اسرائيل نفسها على وضعه من موانع وقيود أمام فكرة الدولة الديمقراطية ثنائية القومية. إلا أن الكاتب يصر في هذا السياق على الدور المحتمل للمشاريع الاقتصادية المشتركة في إذابة الجليد والتشجيع على السلام. زهير الكساب ــــــــــــــــــــــــــ الكتاب: الجمهورية العبرية: كيف يمكن للديمقراطية العلمانية والمشاريع العالمية أن تجلب السلام أخيرا إلى إسرائيل المؤلف: برنار أفيشاي الناشر: هاركوت تاريخ النشر: 2008