إذا كنا عنينا من قبل بمناقشة ظاهرة بروز المُدوَّنات والمُدونين باعتبار التدوين أصبح رمزاً لنشوء فضاء اجتماعي جديد، فلا يمكن في الواقع فهم هذه الظواهر المستحدثة إلا في ضوء التركيز على النقلة الكيفية في النموذج الحضاري من المجتمع الصناعي إلى مجتمع المعلومات العالمي. والمجتمع الصناعي هو ربيب الثورة الصناعية، ولم يكن في الإمكان صياغة وتخطيط مؤسساته وترسيخ قيمه، إلا في ضوء المشروع الحضاري للرأسمالية الأوروبية التي صعدت على أنقاض المجتمع الإقطاعي الأوروبي القديم. وهذا المشروع الحضاري اصطلح على تسميته بالحداثة Modernity. والحداثة مشروع يقوم على عدة أسس هي الفردية والعقلانية والوضعية والاعتماد على العلم والتكنولوجيا، وتبني نظرة خطية Linear في التاريخ الإنساني مبناها أنه يتطور من مرحلة إلى أخرى. والحداثة كمشروع له تجليات مختلفة. أولها الحداثة الفكرية التي أعْلت من شأن العقل، وكان شعارها أن "العقل هو محك الحكم على الأشياء". وبعبارة أخرى أهدرت الحداثة الفكرية سلطان وسطوة النص الديني الذي كانت تحتكر تفسيره وتأويله صفوة رجال الدين، الذين كانوا ينطلقون من رؤى للعالم تتسم بالانغلاق وبالرجعية، مما أدى إلى جمود المجتمعات الأوروبية وسيادة الاستبداد السياسي. وفي قلب الحداثة السياسية ولدت فكرة المجال العام Public Sphere. وهناك إجماع بين العلماء الاجتماعيين على أن المفكر الذي وضع أسس نظرية المجال العام هو الفيلسوف الألماني الشهير "هابرماس" في كتابه المعروف "التحول البنيوي للمجال العام" الذي صدر عام 1962. ومازال هذا الكتاب هو المرجع الأساسي في الموضوع حتى الآن على رغم أن "هابرماس" طور من أفكاره من بعد وخصوصاً في نظريته الاتصالية. والسؤال الآن: ما هو تعريف المجال العام؟ المجال العام -كما تعرفه موسوعة ويكيبيديا- هو "منطقة في الحياة الاجتماعية حيث يتجمع الناس معاً ويناقشون بحرية المشكلات المجتمعية بعد أن يحددوها، ومن خلال مناقشاتهم يؤثرون على الفعل السياسي". وهو فضاء خطابي (من مفهوم الخطاب) discursive يجتمع فيه الأفراد والجماعات ليناقشوا الأمور ذات الأهمية بالنسبة لهم، وللوصول -إذا كان ذلك ممكناً- إلى حكم عام. ويرى بعض الباحثين أن المجال العام أشبه ما يكون بمسرح ينصب في المجتمعات الحديثة، يتم فيه تفعيل المشاركة السياسية من خلال الكلام. وهو في قول آخر "مجال من مجالات الحياة الاجتماعية يتشكل فيه الرأي العام". ويمكن القول إن "المجال العام" يتوسط بين "المجال الخاص" و"مجال السلطة العامة". ويعبُر كلٌ منهما من خلال آلية الرأي العام الذي يجعل الدولة بصيرة بحاجات المجتمع. وهو بهذه الصورة يتميز عن الدولة، لأنه مجال لإنتاج الخطابات التي يمكن -من ناحية المبدأ- أن تكون ناقدة للدولة. وهو أيضاً يتميز عن الاقتصاد الرسمي، لأنه ليس مجالاً لعلاقات السوق، ولكنه مجال للعلاقات الخطابية والعلاقات بين خطابات مختلفة إيديولوجيّاً، فهو مسرح للجدل والنقاش وليس مجالاً للبيع والشراء. وهذه التفرقة بين أجهزة الدولة، والأسواق الاقتصادية، والتجمعات الديمقراطية أساسية في النظرية الديمقراطية. لأن الجماهير تعتبر المجال العام باعتباره مؤسسة تنظيمية ضد سلطة الدولة. ومن هنا فإن دراسة المجال العام لابد لها أن تركز على "الديمقراطية التشاركية" وكيف يتحول الرأي العام لكي يصبح فعلاً سياسياً. والدراسات المتعددة التي تعرضت للمجال العام تاريخيّاً والتي تناقشه في الوقت الحاضر تحاول الإجابة على ثلاثة أسئلة رئيسية: ما هي الأسس النظرية للمجال العام، وكيف تناقش المعلومات فيه، وما هو تأثير المجال العام على المجتمع؟ ولا نستطيع -لضيق المجال- أن نفيض أكثر من ذلك في الحديث عن المشكلات النظرية والتطبيقية بهذا الصدد. ولكن ما يهمنا في الواقع هو التأكيد على فكرة جوهرية مفادها أن ممارسات المجال العام ستختلف بالضرورة وجوداً وعدماً بحسب طبيعة النظم السياسية المختلفة، كما أن تأثيراته في مجال السياسة لابد لها أن تختلف بحسب هذه النظم. ومن المعروف أن علم السياسة فيه تصنيفات مختلفة للنظم السياسية، ولكننا نميل إلى التصنيف الذي وضعه عالم الاجتماع السياسي "لويس كوزر" في كتابه "علم الاجتماع السياسي". وهو تصنيف ثلاثي يضم ثلاثة أنماط رئيسية، وهي النظم الشمولية والنظم السلطوية والنظم الليبرالية. والنظام الشمولي بحكم طبيعته لا يسمح إطلاقاً بوجود "مجال عام" فعال تتم فيه مناقشة توجيهات النظام الأساسية وسياسات الحكومة. وذلك لأنه غالباً يقوم على أساس هيمنة حزب سياسي أوحد، ربما كان مثاله البارز الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفييتي السابق. ففي هذا النظام الشمولي ليس هناك مجتمع مدني مستقل عن السلطة على وجه الإطلاق، ولا يمكن أن يعلو صوت على صوت الحزب الشيوعي الذي ينفرد بالساحة السياسية، ويصدر توجيهات للتنفيذ وهي توجيهات غير قابلة للمناقشة. وبعبارة مختصرة هذا النظام سواء هيمن عليه حزب سياسي واحد أيّاً كانت أيديولوجيته هو نموذج لفرض التفكير الأحادي Pensé unique على المجتمع، مما يؤدي على المدى الطويل إلى العقم الفكري، والانهيار الاجتماعي التدريجي، كما حدث فعلاً بالنسبة للاتحاد السوفييتي. والنمط السياسي الثاني هو السلطوية. والنظام السلطوي -بحسب التعريف- يفرض قبضته الحاكمة على المجتمع، وإن كان يسمح بحرية نسبية لبعض المؤسسات، وبمجال عام محدود للغاية وتحت الرقابة، تدار فيه المناقشات التي تخص المجتمع في حدود. وربما كان المجتمع المصري في العهد الناصري نموذجاً لهذا النظام السلطوي الذي مازالت بصماته واضحة حتى الآن. والنمط السياسي الأخير هو النظام السياسي الليبرالي، الذي يتمتع لكونه ديمقراطياً بمجال عام حي وفعال، تدور فيه المناقشات -نظريّاً- بحرية مطلقة وبغير قيود أو حدود. وربما كان المجتمع الأميركي المعاصر نموذجاً بارزاً للنظم السياسية الليبرالية. وإذا كنا جزمنا بأن المجال العام -كما عرَّفناه في صدر المقال- لا يمكنه أن يتواجد في رحاب المجتمع الشمولي، ويمكن أن يمارس حياته في دائرة بالغة الضيق في ظل المجتمع السلطوي، فمن المفروض أن يمارس حياته كاملة في ظل النظام الليبرالي. غير أن القراءة النقدية لتحولات المجتمع الأميركي المعاصر منذ الخمسينيات حتى الآن تكشف أن هناك فجوة كبرى بين النظرية والتطبيق! ولكي نلخص حكمنا على هذا المجتمع في عبارة موجزة يمكن القول إن الوضع هناك يتمثل في الرحلة الطويلة التي قطعها هذا المجتمع من إرهاب "المكارثية" في الخمسينيات إلى إرهاب "المحافظين الجدد" في الوقت الراهن! ونعني بذلك أنه خلافاً لقواعد وأعراف النظام السياسي الليبرالي نشأت في الخمسينيات ظاهرة "المكارثية" نسبة إلى عضو الكونجرس الأميركي "مكارثي" الذي رأس لجنة مهمة من لجان الكونجرس للبحث عن المثقفين الأميركيين ذوي الاتجاهات اليسارية اشتراكية كانت أم شيوعية، تمهيداً لمحاكمتهم. ولم يفلت من قبضة مكارثي أي مثقف أميركي ممن يمثلون نخبة العلماء والمفكرين والفنانين. وانقضت حقبة المكارثية، وبعدها اتسعت دوائر المجال العام وخصوصاً حين قام الشباب الأميركيون باحتجاجات واسعة النطاق ضد الحرب الأميركية العدوانية في فيتنام. غير أن أحداث سبتمبر 2001، ونعني الهجمات الإرهابية ضد مراكز القوة والنفوذ في أميركا وما أدت إليه من إعلان الرئيس جورج بوش لحربه ضد الإرهاب وغزوه العسكري لأفغانستان والعراق، أدت به إلى أن يصدر "القانون الوطني" الذي ينص على عقاب كل من يوجه نقداً للحرب ضد الإرهاب، بل إن هذا القانون الذي يخرق حقوق الإنسان الأميركي يعطي الحق للسلطات الأمنية في استراق السمع على المكالمات التليفونية، بل والقبض على كل من يشتبه في علاقته بالإرهاب. ومعنى ذلك، بكل بساطة، إعدام "المجال العام" الأميركي. وفي ذلك مصداق لتوصيف الفيلسوف الشهير "ماركيوز" للمجتمع الأميركي بأنه يقوم على "التسامح القمعي" represive tolerance أو بعبارة عالم السياسة الأميركي "بيتر جروس" أنه نظام يقوم على "الفاشية الودودة"!. ومعنى ذلك في الواقع انهيار فكرة المجال العام بتعريفه التقليدي وصعود فضاء المجتمع المعلوماتي الجديد!