من عجائب الدهر أن تنقلب الأوضاع رأساً على عقب، وأن تتغير الأحوال من النقيض إلى النقيض، وأن تدور عقارب الساعة مئة وثمانين درجة، وأن يتبدل النهار إلى ليل، والليل إلى نهار. ويصبح العدو صديقاً، والصديق عدواً، وفلسطين إسرائيل، وإسرائيل فلسطين. هذا ما حدث بالضبط هذه الأيام. تُمد إسرائيل بالغاز الطبيعي لينيرها، وتسيّر به عرباتها المصفحة ودباباتها وآلياتها لتعتدي بها على شعب فلسطين في غزة والقطاع. تهدم المنازل، وتجرف الأرض، وتقتل النساء، وتسيل دماء الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ. وتقطع الغاز عن قطاع غزة. فتتوقف محطات توليد الكهرباء، وتتوقف السيارات في الطرقات بما في ذلك سيارات الإسعاف والأجهزة الطبية في المستشفيات وأفران المخابز ومطابخ المنازل. ويراجع الطلاب دروسهم على أضواء الشموع. إنها نهاية العالم، وعلامة من علامات الساعة، ونهاية التاريخ، ونذير بانهيار الأمم وسقوطها عندما يغيب العقل، ويقضي على البداهة، وتجف الإنسانية، وتنقلب القيم رأساً على عقب. فقد تحول السلام البارد إلى سلام حار. وبدأ التطبيع على أوسع نطاق، التطبيع الاقتصادي، والاقتصاد عصب الحياة. والتذرع بأن ذلك يتم عبر قطاع خاص غير صحيح لأنه لا يجرؤ القطاع الخاص أن يعقد صفقات تجارية إلا بموافقة الدولة. والغاز والبترول في النهاية قطاع عام. ولم تمر الاتفاقية على القنوات البرلمانية للموافقة. بل إن بعض البرلمانيين اعترض وثار بعد أن اكتشفت القضية. ولو كان الأمر قد تم بين قطاع خاص وإسرائيل كما تمت من قبل صفقات توريد الإسمنت والحديد لبناء الجدار العازل، جدار الفصل العنصري، فالهدف الأقصى هو خلق طبقة اقتصادية مصالحها مع إسرائيل لمواجهة مقاومة التطبيع الشعبية على كل المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية لصالح التطبيع الاقتصادي والتطبيع السياحي، والأخطر التطبيع الأخلاقي والسياسي. فما المانع من التجارة مع العدو، و"التجارة شطارة"؟ وما المانع أن ترعى الدول مصالحها التجارية؟ فرأس المال ليس له وطن. والعالم سوق، عرض وطلب، مكسب لا خسارة، ربح دائم من الصديق ومن العدو. ويتم بيع الغاز إلى إسرائيل بالسعر المدعوم وقت توقيع الاتفاقية بالرغم من ارتفاع الأسعار، ورفع الدعم عن المحروقات للشعب. فما يُدفع لإسرائيل عن طريق الدعم يقع على كاهل المواطن العربي بارتفاع أسعار المحروقات، سائق عربات الأجرة. وكل مواطن يستعمل الطاقة، فالطاقة في كل شيء في المخابز والمصانع والأفران والإنارة والمواصلات وضخ المياه وتكريرها. ويُغلق معبر رفح. ولا يفتح إلا باتفاق دولي، أياماً معدودات، يوم لإجراء العمليات الجراحية، ويوم لعلاج المرضى، ويوم لعبور الطلاب والموظفين والمسافرين. وبعدها يُغلق المعبر من جديد! فالحياة بالقطَّارة. والموت ببطء. فيطول عذاب الحشرجة بين الحياة والموت. مع أن الحدود مفتوحة لمن هب ودب، أوروبيين وأميركيين وإسرائيليين بمجرد شراء طابع بريد من المطار قبل الدخول دون الوقوف بالطوابير كما يفعل المواطنون العرب أمام السفارات الأجنبية من الفجر حتى الظهر عدة أيام لاستلام الطلب ثم لتقديمه والانتظار بالأسابيع كي يعرف المواطن مصيره، السماح له بالسفر أو الرفض، بعد تحديد موعد عن طريق شركة اتصالات وسيطة بين المواطن والسفارة، وسعر الدقيقة جنيهان، وتسليم جواز سفره واستلامه عن طريق شركة أجنبية للبريد السريع على حساب المواطن. وتترك السلطة الوطنية الفلسطينية غزة محاصرة وهي جزء من الوطن. وتعطي الأولوية للمصلحة الحزبية على المصلحة الوطنية. ولا تتحدث باسم فلسطين كلها، وتعتبر غزة خارجة على القانون بالرغم من أن إقالة الحكومة أمر غير قانوني وغير دستوري في نظر البعض. فتقع غزة بين حصار العدو الصهيوني والأخ الفلسطيني والصديق العربي. يشارك الثلاثة في خنقها، حصار من الخارج، وحصار من الداخل، وحصار من الجار. والأقربون أولى بالشفعة. يعاني مليون ونصف مليون في قطاع غزة من الجوع والعطش والمرض والمجاري الطافحة والظلام والحصار الشامل. وتقلصت قضية فلسطين من تحرير كافة أرجاء التراب الوطني، من النهر إلى البحر، إلى إزالة آثار العدوان والعودة إلى حدود الرابع من يونيو-حزيران 1967 إلى خريطة الطريق مع تنازل عن الاستيطان وإمكانية تبادل الأراضي على الحدود، والسماح بالعودة لبضع آلاف من اللاجئين وليس لثلاثة ملايين لاجئ، وعدم توزيع المياه بالعدل بين فلسطين والكيان الصهيوني، والقدس عاصمة أبدية لإسرائيل. وتحول الاستعمار الاستيطاني من قضية تحرر وطني إلى رؤية بوش، إقامة دولتين، الأولى قائمة والثانية مازالت على مستوى الكلام والأحلام. وتحولت الأراضي المحتلة بفعل طول الاحتلال إلى أراضٍ متنازع عليها. تحولت فلسطين إلى كسرة خبز وجرعة ماء وشعاع ضوء ودواء مريض. أما تبرير غلق معبر رفح خوفاً من توطين الفلسطينيين فهو أسطورة. فقد دخل سبعمائة ألف فلسطيني رفح والعريش وعادوا بعد ثلاثة أيام بعد أن تزودوا بالماء والطعام والدواء. ولو أراد الفلسطينيون في الأراضي المحتلة التوطين لهاجروا، وقبلوا التعويض، وأغنياء اليهود في العالم مستعدون له حتى تفرغ فلسطين من شعبها وتصفى القضية باسم الصفقة. وقد تكون الحجة عدم تخفيف الضغط على إسرائيل بفتح معبر رفح حتى تظل إسرائيل هي المسؤولة الأولى والأخيرة عن الحصار. وأين هو الضغط على إسرائيل؟ لا قطعٌ للعلاقات، ولا سحبٌ للسفير الإسرائيلي، ولا إيقافٌ للتطبيع، ولا ثأرٌ من مقتل الناس، جنوداً وأطفالاً على الحدود. بل إن هذه المشاركة في الحصار تشجع إسرائيل على تشديده. وكيف يكونون ملكيين أكثر من الملك؟ ولا تفيد الخطب الرنانة ولا الشعارات البرَّاقة "لن نسمح بتجويع الفلسطينيين" والواقع أنهم يجوَّعون، وتُظلِم سماؤهم، ويفرط في سيادتهم الوطنية بالسيطرة الإسرائيلية على حدودها، وأن يكون لها وحدها الحق المطلق في تنظيم العبور. والخطورة الكبرى على روح بعض دولنا، تفريطها في القيام بدورها وفي أمنها القومي وفي روحها العربية. فقد خاضت دولنا حروباً خمساً من أجل تأمين جبهتها الشرقية في فلسطين كما فعل أحمس وصلاح الدين ومحمد علي في الشام حتى أصبحت فلسطين قضية مصير. الخطورة قتل الروح الإنسانية عند العرب وتحويل كل شيء إلى تجارة. الخطورة قتل روح الجوار عبر التاريخ وفلسطين كمدخل شرقي. الخطورة قتل الروح الإسلامي والأخوة الإسلامية والتضامن الإسلامي. الخطورة خنق قيم تضامننا وإزهاق روحها وتحويلها إلى جثة هامدة لا تشعر ولا تحس. الخطورة على أجيالنا القادمة، مستسلمة أو غاضبة، لما فعله هذا الجيل، فيبيع بعضها أو يهاجر أو ينتحر أو يغتال.