في الحادي والعشرين من مايو، وبعد مفاوضات مكثفة، استمرت ستة أيام متواصلة، تم التوصل إلى اتفاق في العاصمة القطرية "الدوحة" بين الفرقاء اللبنانيين، اتفاق أنهى الأزمة السياسية التي استمرت 18 شهراً، وأدت إلى إصابة لبنان كله بالشلل. كان الاهتمام المباشر للجميع، هو الحيلولة دون تدهور الموقف، والسقوط في دورة جديدة من دورات العنف بين الفرقاء، وإيجاد صيغة لانتخاب رئيس جديد للبلاد. وقد رأت معظم منظمات العالم ودوله، مثل الولايات المتحدة الأميركية، وإيران، والأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والجامعة العربية، أن هناك ضرورة ملحة لدعم هذا الاتفاق، لأنه أنهى أزمة كان يمكن أن تزج بالبلاد في أتون حرب أهلية جديدة. لكن بعض النقاد يرون أن اتفاق الدوحة لم يأت بحل لأي من الأسباب الجوهرية للأزمة، وأن أقصى ما يمكن للأطراف المعنية تحقيقه من وراء ذلك الاتفاق، هو كسب بعض الوقت حتى تتمكن من إعادة تقييم خياراتها السياسية. ويعتقد بعض المراقبين أن "حزب الله" خرج منتصراً من هذه الأزمة، لأنه تمكن من المحافظة على ميليشياته العسكرية، ولم يضطر لتسليم سلاحه، كما حصل أيضاً على ما يطلق عليه "الثلث المعطِّل" الذي يمكّنه من تعطيل أي تشريع مقترح من قبل تحالف 14 آذار (مارس) الذي يضم قادة سُنةً ومسيحيين ودروزاً، والذي تكوّن عقب ما يعرف بـ"ثورة الأَرْز" عام 2005 تحت قيادة رئيس الوزراء فؤاد السنيورة. لقد أظهر "حزب الله" من خلال الأزمة الأخيرة، أنه لا يتورع عن استخدام القوة ضد مواطنيه اللبنانيين، وهو ما ألقى ظلالاً من الشك على الادعاءات التي كان الحزب يقدمها باستمرار حول وظيفة سلاحه باعتباره سلاحاً للمقاومة فقط، وأن الحزب هو في الأساس حركة مقاومة ضد المعتدين الإسرائيليين! وقد أثارت علاقات الحزب الوثيقة بإيران، الدولة الراعية له، مخاوف لدى الكثيرين من أن يعمد الحزب إلى تحويل جزء من البلاد، إلى معقل إيراني في بلاد الشام بكل ما يمكن أن يترتب على ذلك من قمع، ومواقف رقابية متشددة، ترتبط في الذهن عادة بملالي إيران المحافظين. وهناك قلق أيضاً من حدوث صدع، لا يمكن تجسيره في لبنان، واحتمال انقسام البلد للأبد وفقاً للأوضاع القائمة حالياً، وذلك بعد أن تمكنت إيران، من خلال علاقاتها الوثيقة مع كل من سوريا و"حزب الله" نفسه وحركة "حماس" الفلسطينية، من إقامة رأس جسر لها على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، وهو ما يتيح لها المزيد من البروز كلاعب قوي ذي تأثير سلبي في إطار الشرق الأوسط الكبير. ويرى بعض المراقبين الآخرين، والذين لا يُبدون سعادةً تجاه شروط اتفاق الدوحة، أنه وإن كان "حزب الله" قد خرج -في ظاهر الأمر- ظافراً من الجولة الأخيرة، إلا أن الحقيقة هي أنه قد أحرق الجسور الواصلة بينه وبين العديد من قطاعات الشعب اللبناني، حيث ظهر بوضوح من خلال تلك الجولة أنه يعتمد على السلاح والمال اللذين يتلقاهما من طهران لإدامة سلطته ونفوذه، بدلاً من العمل على اكتساب جاذبية سياسية باعتباره حزباً وطنياً... وهي كلها عوامل ستقود حتماً إلى نهايته، خصوصاً على ضوء حقيقة أن اللبنانيين، ومنهم غالبية أعضاء الطبقة الوسطى الشيعية نفسها، ليست لديهم الرغبة في أن يكونوا جزءاً من حكومة ثيوقراطية (دينية)، على النمط الإيراني. وهناك تطور إقليمي آخر أدى إلى إضافة مزيد من التعقيد إلى تفاصيل الصورة. هذا التطور يتمثل في الأنباء الخاصة بتوسط تركيا في ترتيب إجراء مباحثات غير مباشرة بين إسرائيل وسوريا، من أجل إيجاد طريقه لإنهاء الصراع القائم بين الدولتين منذ 60 عاماً. النتائج التي قد تترتب على مثل تلك المحادثات، قد تشمل من ضمن ما تشمل انسحاب إسرائيل من هضبة الجولان التي احتلتها عقب حرب السادس من حزيران (يونيو) 1967. وعلى الرغم من أنه لا يزال مبكراً توقع أن تسفر تلك المباحثات عن أية نتائج جوهرية، فإن حقيقة أنها تحدث بالفعل، أثارت نوعاً من القلق في واشنطن وبيروت وطهران، ذلك لأن الأمر المؤكد هو أنه لن يكون هناك أي احتمال لإقدام إسرائيل على الانسحاب من هضبة الجولان قبل تخلي سوريا أولاً، عن دعمها لـ"حزب الله"، والمنظمات الفلسطينية التي تتخذ من دمشق مقراً لها، بالإضافة إلى النأي عن إيران التي ترتبط معها بتحالف وثيق جعلها أقرب حلفائها في الشرق الأوسط على الإطلاق في الوقت الراهن. من الواضح أيضاً أن سوريا ستصر على ضرورة توقف الأمم المتحدة عن مواصلة التحقيق في قضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري عام 2005، وعلى ضرورة "إطلاق يدها" في التدخل في سياسات لبنان حسبما ترى. وبالنسبة للمسألة الأخيرة، هناك حسب ما هو ظاهر، اختلافات كبيرة في الآراء بين إسرائيل والإدارة الأميركية. فالرئيس بوش كان واضحاً في دعمه "ثورة الأَرْز" منذ البداية، وفي تعبيره عن ضرورة ابتعاد سوريا عن التدخل في الشؤون اللبنانية. يختلف هذا عن موقف إسرائيل التي تبدو أقل اهتماماً بمستقبل لبنان، إذا ما تمكنت في نهاية المطاف من تحقيق سلام ذي معنى مع سوريا، يؤدي إلى تقليص التحدي الإيراني، وإضعاف كل من "حزب الله" وحركة "حماس". والجدل حول اتفاق الدوحة، وما يعنيه بالنسبة للبنان والمنطقة، قد بدأ بالكاد، بيد أن ما يمكن قوله في هذه المرحلة هو أنه إذا ما تمكن لبنان من تجاوز الصيف الحالي بدون أحداث عنف، وكان الموسم السياحي جيداً، فإن هناك إمكانية لتحقيق مزيد من التسويات بين الفرقاء. وكي يحدث ذلك، ستحتاج حكومة السنيورة إلى دعم من الدول العربية الكبرى، ومن الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، حتى تتمكن من تحمل المطالب السياسية التي سيستمر "حزب الله" وحلفاؤه -حتماً- في المطالبة بها، مع استمرارهم في الوقت نفسه في رفض نزع سلاح ميليشياتهم القوية.