حدث يستحق التأمل وتتبع دواعيه ونتائجه: بينما العرب مشغولون بمناقشة الوضع اللبناني في الدوحة، عَقد في القاهرة، وخلال أقل من أسبوعين، ممثلون لـ"الناتو" اجتماعيْن مع برلمانيين من دول أعضائه، ثم مع مندوبين ذوي مستوى رفيع برئاسة نائب الأمين العام للحلف نفسه، وقد دُعيت لحضور الاجتماعين كخبير في العلاقات الدولية، وليس بأية صفة رسمية، لذلك يجب وضع هذا الحدث في سياقه الأكبر والأعم لمحاولة التعامل معه. وإذا كان التغيير سُنة الحياة، فعندما يكون هذا التغيير عالمياً وجذرياً، فإن التكيف معه يصبح تحدياً كبيراً، هذا ما حدث ويحدث لحلف دولي عتيد مثل "الناتو" (حلف شمال الأطسي). فبعد انقسام العالم عقب الحرب العالمية الثانية إلى شرق شيوعي وغرب رأسمالي، أصبحت الأحلاف العسكرية تجسيداً لهذا الانقسام والدرع الواقية لخوض الحرب العالمية الثالثة. قام حلف "وارسو" ليجسد الكتلة الشرقية الشيوعية، وقام "الناتو" ليجسد الغرب الرأسمالي، وبالتالي أصبحت هذه الترسانات العسكرية الرهيبة ركيزة العلاقات الدولية، بل وصبغت النظام الدولي بصبغتها حيث سُمّي هذا النظام بالثنائية القطبية Bipolarity، أي نظام الكتلتين. لكن في عامي 1990 و1991 حدث ما لم يكن في الحسبان تماماً، قامت الثورات الشعبية في دول الكتلة الشرقية الشيوعية، تفكك حلف "وارسو" وانهار، ثم تفككت الكتلة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفييتي الذي اختفى هو نفسه. ولم يكن هذا التغيير مفاجئاً فقط، حتى بالنسبة لأكبر المتخصصين في الشؤون الشيوعية، وسريعاً أيضاً بحيث لم يأخذ عامين على الأكثر، بل كان جذرياً. فهو باختصار شديد إعادة هيكلة العالم من نظام الحرب الباردة ذي الكتلتين المتصارعتين المنغلقتين على نفسيهما والمتربصتين إحداهما بالأخرى، إلى نظام العولمة الرأسمالية، ثم حدث هذا التغير المفاجئ والجذري دون حرب ساخنة بين الكتلتين. ورغم أن العالم بأسره أصبح مُلزماً بمواجهة هذا التغيير، فإن التحدي الأكبر كان بلا شك من نصيب "الناتو"، فالحرب الباردة وانقسام العالم إلى كتلتين متصارعتين كانا سبب إنشاء "الناتو" وذريعة بقائه، لكن بعد اختفاء خصمه العتيد -حلف "وارسو" ومعه الشيوعية الدولية- كيف يستطيع "الناتو" المحافظة على شرعيته أو يبرر أمام شعوب دول أعضائه النفقات العسكرية الباهظة، ضد أي خصم ومن أجل أي حرب عالمية؟! ومن مقابلاتي على مر السنين، يبدو أن الكل متفقٌ على أن هذه الفترة كانت من أصعب الفترات لمتخذي القرار داخل هذا الحلف، ومما زاد الطين بلة أن الخصوم السابقين -أعضاء الكتلة الشرقية المختفية- أصبحوا أعضاء في "الناتو". وفي سنة 1999 دخلت كل من تشيكوسلوفاكيا والمجر وبولندا (عاصمتها وارسو)، وفي سنة 2004 دخلت سبع دول أخرى، وتستعد ألبانيا وكرواتيا لدخول الحلف سنة 2009، ثم تتبعهما جورجيا وأوكرانيا، ليزيد عدد أعضاء "الناتو" أكثر من مرتين ونصف: من 12 عضواً عند إنشائه سنة 1949 إلى حوالي 30 عضواً قبل سنة 2010، والبقية تأتي. ترجع هذه الحياة الجديدة التي دبت في الحلف إلى عدة عوامل، لكن أهمها الهجوم الإرهابي على نيويورك وواشنطن في سبتمبر 2001، حيث قام الحلف بإرسال قواته إلى أفغانستان، كما يقوم حالياً بتدريب قوات الأمن في العراق، وهو يهتم في برنامجه الجديد نسبياً بالتوجه الشرق أوسطي و"الحوار مع العرب"! زادت مركزية الشرق الأوسط في أعمال الحلف، حتى قبل مؤتمر قمته في اسطنبول سنة 2004، ومعظم بنود أجندته معروفة: من ضمان "أمن الطاقة" إلى "محاربة الإرهاب". لكن ما هي أجندتنا نحن كمنطقة تهم هذا الحلف، أجندتنا كمجموعة دول وليس فُرادى؟ وكيف ندير المفاوضات مع هذا القادم بكل قوته والمصر على "التفاعل" معنا؟ كيف نستطيع أن نستغل هذه الفرصة لتحقيق أهدافنا وليس أهداف الآخرين؟