نقر أولاً بأن لبنان منذ أزمة الفراغ الرئاسي والحكومي والتشريعي لم يكن شأناً داخلياً أو قُطرياَ ضيقاً، رغم صغر حجمه إلا أن تفاعلاته كانت عالمية بكل المقاييس. فدوحة السلام أثمرت في لبنان رئيساً توافقياً بإجماع الكل المختلف في التفاصيل والمتفق في الأصل، فانتصر بذلك الوطن وانهزم الوثن. فالخطوة الأولى نجحت بالحوار ولن تنجح الأخرى إلا بالحوار أيضاً ما دام السلاح قد حُيّد عن الداخل وقيد للعدو، فلا مناص من الانتقال بسرعة إلى النتيجة قبل أن تبرد سخونة حوار الدوحة الذي ترك لجميع الفرقاء حرية القول في كل الاتجاهات، أما الفعل فكان لزاماً أن يكون باتجاه واحد يصب في إعادة الرهينة إلى أصحابها باتفاق لا يشوبه أدنى درجات النزاع. كما كنا قلقين مرعوبين من حدوث الأسوأ في لبنان، كذلك نحن بانتظار قطار الإعمار الثاني للبنان، ركابه كل الأطياف المنضوية في اتفاقية الدوحة. فمسؤولية الحفاظ على السلم الاجتماعي في المجتمع اللبناني بكل تنوعه غدت بيد أهله وهذا هو الاختبار الأول لدوحة السلام التي تجمع كل الطوائف المشكلة في طبق لبنان الموحد. بعد اتفاق "الدوحة" دخل لبنان إلى مختبر "المستقبل" الممكن رؤيته من بؤرة الحاضر بعد التركيز على المتفق عليه باتساع الصدور للمختلف حوله بدون اختلاف. لا زلنا على قناعة بأن أهل لبنان أدرى بشعابه، فبدون هذه القناعة، يعني السماح للتدخلات الجانبية بالعودة من جديد مع أن العودة السابقة لم تكن حميدة كما يعلم الجميع. وعلى لبنان بعد "الدوحة" مسؤولية أخرى لا ينبغي أن تُغفل في خضم التحديات التي يتم التعامل معها على أرض الواقع، ألا وهي تثمين الزخم الذي لاقاه من كافة الأطراف التي شاركت في حل أزمة الرئاسة التي طالت بطول إقامة الجامعة العربية هناك ومن ثم تحريك الأطراف الإقليمية والدولية المعنية بصفة مباشرة وغير مباشرة في الشأن اللبناني بطريقة أو بأخرى، فهذا النجاح في الوصول إلى تثبيت رأس الدولة على جسم لبنان الجريح، لم يكن لصالح جهة واحدة ممثلة في قطر وحدها وإنما كان للتدافع المشترك دور بارز عبر الأطراف الظاهرة أو الخافية وفق دبلوماسية متعددة الأوجه من أجل التوصل إلى فن الممكن في لبنان. إن الماء الذي صُب على نار الفتنة في لبنان يجب أن يستمر في التدفق كأنهاره الرقراقة منذ الأزل، فهو العلاج السليم لقتل الفتنة في مهدها ومن ثم القدرة على قطع رأسها كلما أرادت أو فكرت في الاشتعال من جديد. فالوقت المعلن لتشكيل الحكومة الجديدة، في غضون الأسابيع المقبلة جزء مهم من حزمة التفاؤل المطلوب ترويجه بعد الإجماع الذي تم على الرئيس ميشيل سليمان. كل المراقبين للشأن اللبناني حريصون على اصطياد الأخبار التي تدعم كل خطوات السلم الأهلي في لبنان لأن ذلك هو الخط الأحمر الذي لا ينبغي السماح لأحد بالانحدار نحوه والالتفات إليه. فدقات قلوبنا قبل دقات الساعة الخاصة بلبنان تتسارع، بالتفاؤل الذي لا ينبغي أن يشوبه الحذر من وقوع المحذور، فلبنان الحكومة والشعب ليس وحده في بوتقة الصراع للتغلب على كافة التحديات التي أعلن عنها رئيس الجمهورية فور انتخابه. فأنظار العالم تتطلع إلى عهد جديد وآمال تتجدد لصالح العودة إلى الأفضل في كل ربوع لبنان، الذي لا يستحق أن يتعرض لصلابة العناد السياسي بعد أن كانت الفرحة في حوار الدوحة المفاجئ.