في لبنان مشكلة. إذا نظر العالم العربي إلى هذه المشكلة بعين العطف، فإنه يحزن على لبنان. ولكن إذا نظر إليها بعين الواقع فإنه يحزن على نفسه. بمعنى أنه إذا اعتبر العالم العربي المشكلة في لبنان مشكلة لبنانية فإنه يخاف على لبنان. وإذا اعتبرها حلقة في سلسلة المشاكل العربية الأخرى، فإنه يخاف على نفسه. ومن هنا التساؤل: هل إن المشكلة التي تعصف بلبنان منذ سنوات هي مشكلة لبنانية أم أنها مشكلة إقليمية تفجرت في لبنان؟ لاشك أن هناك بُعْداً لبنانياً للمشكلة. ولكن ماذا عن الأبعاد غير اللبنانية؟ للإجابة على هذا السؤال، لابد أولاً من عرض للمشاكل العربية الأخرى التي تشكل مع المشكلة اللبنانية حلقات فيما يبدو أنه سلسلة واحدة. في الصحراء الغربية مشكلة تفجرت بين المغرب والجزائر في عام 1975 ولا تزال دون حلّ حتى اليوم على رغم المساعي التي بذلتها الأمم المتحدة، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، ومنظمة الوحدة الأفريقية، وجامعة الدول العربية، إلى جانب عدد كبير من الدول الأوروبية (فرنسا وإسبانيا وسواهما). وفي السودان مشكلة دارفور التي بدأت مجرد خلاف محدود بين قبائل تعيش على الرعي وأخرى تعيش على الزراعة، وأصبحت مأساة إنسانية تشغل المجتمع الدولي بكامله، ليس حبّاً بالقبائل المتصارعة بل رغبة في ثرواتها من النفط واليورانيوم. لقد كان الخوف على السودان من أن ينقسم إلى شمال وجنوب، فإذا الخوف عليه يتسع ليشمل شرقه وغربه أيضاً!!. ولعل في صراع السودان العسكري مع إثيوبيا من جهة، ومع تشاد من جهة ثانية، ما يشير إلى ذلك. أما الصومال فقد تمزق شرّ ممزق إلى ولايات تتناهشها فصائل مسلحة، تارة باسم الإسلام، وتارة أخرى باسم الديمقراطية، وتارة ثالثة باسم استقرار منطقة شرق أفريقيا. وقد بلغ الأمر من السوء أن إثيوبيا التي تعتبر عدو الصومال، تولّت بقرار أميركي التدخل العسكري المباشر باسم حكومته الشرعية! وفي قلب العالم العربي تنفجر ثلاثة براكين سياسية في وقت واحد. وهي فلسطين والعراق ولبنان. ففي فلسطين المحتلة، كانت الذكرى الستون لزرع إسرائيل في هذا القلب العربي مناسبة للطم الذات بدلاً من مواجهة العدو. ذلك أن الانقسام الفلسطيني يتعمق ويتكدس يوماً بعد يوم بين "حماس" في غزة والسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية. وبصرف النظر عمَن هو على حق ومَن هو على باطل، فإن من المثير للدهشة والاستغراب فشل (أو تفشيل) كل المحاولات العربية لرأب الصدع. قامت بالمحاولة الأولى المملكة العربية السعودية ومنظمة المؤتمر الإسلامي حيث عقد لقاء مكة بين الطرفين وتمّ خلاله الاتفاق على صيغة للحل لم تُحترم. وقام بالمحاولة الثانية اليمن. ولكن اتفاق صنعاء لم يكن أحسن حظّاً. أما المحاولة الثالثة فتقوم بها مصر. وهي لا تنحصر بين غزة ورام الله، ولكنها تشمل إسرائيل أيضاً، ولكن من دون طائل حتى الآن. وهكذا احتفلت إسرائيل بذكرى قيامها من دون أن يطلق عليها حجر واحد، ولولا حرص إسرائيل على سلامة الذين اتصلوا بها هاتفياً من بعض الدول العربية للتهنئة بالمناسبة، لكانت أعلنت عن أسمائهم باعتزاز. وفيما يستمر نزف الدم الفلسطيني، يستمر كذلك نزف الدم العراقي، تارة بين السُّنة والشيعة، وتارة أخرى بين الشيعة والشيعة، وبين السُّنة والسُّنة، وبين الأكراد والعرب، وبين التركمان والأكراد. ولا يخفف من هول كل هذه الصراعات الدور الذي تقوم به القوات الأميركية المحتلة التي تستهدف كل هذه الجماعات بالجملة أحياناً وبالمفرق أحياناً أخرى. ولذلك ارتفع عدد الضحايا العراقيين إلى حوالي مليون شخص. فالأكراد في شمال العراق على سبيل المثال، ما إن يضمدوا جراح القصف التركي، حتى يتعرضون لقصف إيراني، الأمر الذي يزيدهم انغلاقاً على الذات القومية وانعزالاً عن دول الجوار العربي والتركي والإيراني وحتى عن العمق العراقي الوطني. تخطف هذه المشاكل، ذات الأبعاد القومية والطائفية والمذهبية، الأضواء عن مشاكل أخرى تبدو أقل حدة. منها ما يجري في مصر من وقت لآخر من اضطرابات بين الأقباط والحركات الإسلامية، ومنها ما تشهده بعض دول الخليج العربي من مظاهر لانبعاث مشاعر مذهبية لم تكن معروفة من قبل (الانتخابات النيابية الأخيرة في الكويت مثلاً والصدامات المسلحة في شمال اليمن بين الدولة والحوثيين). ولاشك أن هذه الجولة السريعة في مشاكل المنطقة العربية تبيّن أهمية إعادة قراءة وقائع المشكلة اللبنانية، أو المشكلة في لبنان. ذلك أن هذه القراءة تكشف عن قواسم عديدة مشتركة مع المشاكل الأخرى. فهناك بُعْد مذهبي بين السُّنة والشيعة ترجمته العملية العسكرية الاقتحامية التي قامت بها قوات "حزب الله" وحركة "أمل". وهناك بُعْد طائفي بين المسلمين والمسيحيين حول صلاحيات رئيس الجمهورية المسيحي، وحول قانون الانتخابات الذي لا يعطي المسيحيين بشكله الراهن القدرة على تحرير عملية انتخاب ممثليهم في مجلس النواب من طغيان الصوت الإسلامي. وهذان البعدان المذهبي والطائفي يطغيان أيضاً على المشكلة التي تخنق العراق وتكاد تجهز عليه. وهناك بُعْد آخر للمشاكل المتفجرة في العالم العربي، وهو البعد العنصري. ففي المشرق هناك المشكلة مع الأكراد، وفي المغرب هناك المشكلة مع الأمازيغ (البربر). ومن اللافت للنظر أن تتجدد الاشتباكات بين العرب والأمازيغ في الجزائر في هذا الوقت بالذات الذي يشهد توترات مماثلة في العراق، وأخرى ربما أشد حدة في السودان بين الشمال العربي والجنوب غير العربي. وهناك اعتقاد بأن العد العكسي لسقوط اتفاقية أبوجا حول الوحدة بين شطري السودان قد بدأ بالفعل. وتكفي الإشارة إلى الاصطدامات العرقية في بلدة أبيي في وسط السودان لإدراك دور البعد الخارجي في إثارة كل هذه المشاكل. يقوم هذا البعد الخارجي على قاعدة مشروع إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، وهو ما أشير إليه في الأدبيات السياسية الأميركية بـ"مشروع الشرق الأوسط الجديد". وإذا كانت الإدارة الأميركية قد رددت مراراً أن المقصود بهذا المشروع إدخال الديمقراطية والليبرالية في أسس الأنظمة والمجتمعات العربية، فإن المدخل إلى ذلك كان ولم يزل شعار منح الأقليات حق تقرير المصير. وهو شعار حق يراد به باطل. ذلك أن تشجيع الأقليات المذهبية والدينية والعنصرية على الانسلاخ، ومن ثم الضغط على الدول العربية للاعتراف بخصوصيات هذه الأقليات وبحقوقها الوطنية الذاتية (على غرار ما حدث في العراق) هو الذي يقف وراء تفجّر المشاكل من المحيط الأطلسي (الصحراء الغربية) إلى البحر الأحمر (السودان والصومال) مروراً بلبنان وفلسطين والعراق. إن السعي لتمزيق العالم العربي إلى دويلات طائفية ومذهبية وعنصرية ليس جديداً. وهو ليس رد فعل على جريمة 11 سبتمبر في نيويورك وواشنطن، وليس استمراراً لغزو أفغانستان ومن ثم العراق. فمشروع التجزئة والتقسيم تزامن مع قيام إسرائيل. وكان يفترض أن يشكل لبنان المرحلة الأولى في هذا المشروع. بل إن الرسائل الرسمية المتبادلة بين رئيس أول حكومة إسرائيلية ديفيد بن غوريون ووزير خارجيته موشي شاريت تقول على لسان شاريت: "أعطني كولونيلاً مسيحياً متعاوناً معنا في لبنان أعطك دولة مسيحية". ولقد حصلت اسرائيل على كولونيلين وليس على كولونيل واحد -الكولونيل حداد والكولونيل لحد-، ولكنها فشلت في مشروعها وانسحبت من لبنان مذمومة مدحورة. واعتقدت إسرائيل أنها تمكّنت من تحقيق هذا الهدف في عام 1982 عندما غزت لبنان واحتلت عاصمته بيروت وأوصلت رئيساً للدولة. ولكن مشروعها تحطم من جديد بسقوط اتفاق مايو 1983، واغتيال الرئيس المنتخب في ذلك الوقت (بشير الجميل). وفي الوقت نفسه كانت إسرائيل تحرّض وتدعم بالمال والسلاح الحركات الانقلابية في جنوب السودان ضد حكومة الخرطوم، وحركات العصيان في شمال العراق ضد حكومة بغداد، على النحو الذي تكشف عنه الوثائق الرسمية الإسرائيلية ذاتها. ومن هنا فإن أي نجاح لهذا المشروع في أي دولة عربية لا يهدد الأمن العربي ويعرّضه للخطر فقط، ولكنه قد يفتح أبواب جهنم أمام سلسلة مدمرة من الهزات الانشطارية القومية والطائفية. وإذا حدث ذلك -لا سمح الله- فإنه سيجعل من العالم العربي دويلات طوائف على غرار ما حدث في الأندلس حيث تساقطت هذه الدويلات الواحدة بعد الأخرى. من أجل ذلك فإن إنقاذ لبنان (كإنقاذ العراق، أو فلسطين أو حتى الصومال) ليس إنقاذاً لذاته فقط، ولكنه إنقاذ للعالم العربي مما يُخطَّط له من مشاريع التجزئة والتقسيم.