ما السبب الذي دعا إسرائيل إلى التعامل مع الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر بهذا القدر من الفظاظة خلال رحلته الأخيرة إلى الشرق الأوسط عندما رفض رئيس الوزراء إيهود أولمرت وكبار الوزراء الإسرائيليين مقابلته، ورفض جهاز الأمن الداخلي في إسرائيل"الشين بيت" توفير الحماية التي يوفرها عادة لكبار الضيوف الأجانب. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، حيث قام اللوبي اليهودي في أميركا بسب الرجل وإهانته، ووصف جهوده الشجاعة لإحلال السلام بأنها عمل من جانب عجوز مخرف وجاهل. وقد جاءت أكثر فورات الغضب الإسرائيلي غرابة، على لسان "دان جيلرمان" السفير الإسرائيلي لدى الأمم المتحدة، الذي قال في تصريحات للصحفيين "إن كارتر ذهب للمنطقة بأيدٍ ملوثة وعاد منها بأيدٍ ملطخة بالدماء بعد أن صافح خالد مشعل قائد حماس". كيف يمكن تبرير مثل هذه اللغة غير الدبلوماسية حتى لا نقول البذيئة. لقد كنا نعتقد أن إسرائيل تشعر في قرارة نفسها بالعرفان بالجميل لجيمي كارتر، الفائز بجائزة نوبل للسلام، على اعتبار أنه- على الأقل- الرجل الذي ساهم في منح إسرائيل ما يمكن اعتباره أكبر جائزة استراتيجية تنالها في تاريخها كله، وذلك عندما نجح في التوسط من أجل التوصل لاتفاقية سلام بين مصر وإسرائيل عام 1979، وهي الاتفاقية التي أخرجت مصر من دائرة الصراع العربي- الإسرائيلي، ورسخت تفوق تل أبيب على سائر جيرانها العرب. وحرية العمل الذي توفرت لإسرائيل جراء تلك الاتفاقية، هي التي مكنتها من غزو لبنان عام 1982 سعياً لتحطيم منظمة التحرير الفلسطينية التي يقودها ياسر عرفات، وطردها من لبنان تمهيداً لجذب ذلك البلد إلى المدار الإسرائيلي في نهاية المطاف. كان هذا ما نتوقعه، ولكن لنعرف أنه ليس هناك شيء اسمه العرفان بالجميل في السياسة، بدليل أن الجائزة الثمينة التي منحها "كارتر" لإسرائيل، قد نُسيت، بل ومُحيت في عيون الإسرائيليين بعد "الجريمة" التي ارتكبها- على حد وصفهم- عندما سعى إلى الترويج لصفقة إسرائيلية مع "حماس"، تتضمن وقفاً متبادلاً لإطلاق النار، وتبادلاً للسجناء. يوم الجمعة الماضي، رفضت إسرائيل العرض المقدم من "حماس" لإجراء وقف متبادل لإطلاق النيران، وهو العرض الذي تم نقله إليها عبر رئيس الاستخبارات المصرية اللواء عمر سليمان، ووصفت ذلك العرض بأنه مجرد "حيلة" من جانب "حماس"، الغرض منها كسب الوقت من أجل تجميع صفوفها، والتزود مجدداً بالسلاح. في ذلك العرض، وعدت "حماس" بإنهاء كافة الهجمات الصاروخية، وإيقاف العمليات العسكرية الأخرى التي تقوم بها، ومن بينها أنشطة تهريب السلاح إلى غزة. في مقابل ذلك طلبت "حماس" من إسرائيل، إيقاف جميع عمليات الاغتيال والقبض، التي تقوم بها ضد كوادرها، وكذلك كافة الأنشطة التي تقوم بها في قطاع غزة، وأن تعمل على تسهيل عملية شحن الإمدادات إلى داخل غزة وخارجها. وفي تنازل من جانبها لإسرائيل، عرضت "حماس" إيقاف إطلاق النار في غزة أولاً على أن يتم مد نطاقه في مرحلة لاحقة إلى الضفة الغربية. لم تبدِ إسرائيل اهتماماً بهذا العرض، لأنها تريد تدمير "حماس" لا إدماجها في أي عملية سلام. وربما يفسر هذا سبب حصارها البربري لقطاع غزة، الذي فاقم منه إقدامها على حرمان القطاع من البترول وزيوت الوقود، ما أدى فعلياً إلى شل حركة جميع السيارات في القطاع، وقطع إمدادات الماء والكهرباء عنه لفترات طويلة كل يوم، وإلى إغلاق المدارس والجامعات. ليس هذا فحسب، بل إن عدم وجود بترول، أجبر برنامج الغذاء العالمي و"الأونروا" وهي الوكالة التابعة للأمم المتحدة المسؤولة عن مساعدة اللاجئين الفلسطينيين، على إيقاف توزيع عبوات المواد الغذائية، التي يعتمد عليها مليون من سكان غزة لضمان بقائهم. وقد أدى هذا إلى غرق غزة في هاوية من البؤس غير المحتمل، في الوقت الذي راح فيه العالم ينظر إلى الناحية الأخرى. وهناك سببان رئيسيان يدفعان إسرائيل نحو رفض التوصل إلى أي تسوية مع "حماس"، مثل تلك التي أراد "كارتر" أن يتوسط من أجلها على سبيل المثال. السبب الأول، هو أن إسرائيل ترفض أي وقف متبادل لإطلاق النيران، لأن ذلك سيضعها على قدم المساواة مع "حماس"، وقد يُفسر على أنها قد استفادت من وقف إطلاق النار مثلما استفادت الحركة منه، في حين أن الحقيقة هي إنها تريد إجبار "حماس" على إيقاف أعمال المقاومة بكافة أنواعها، مع الاحتفاظ لنفسها في الوقت ذاته، بحرية الضرب والقتل، حسبما يحلو لها. السبب الثاني، أن إسرائيل لا تريد أي شيء قد يؤثر على تلك المهزلة السخيفة التي يطلق عليها "المفاوضات مع محمود عباس"، رئيس السلطة الفلسطينية. فتلك المفاوضات لم تصل إلى أي نتيجة حتى الآن- ولن تصل إلى أي نتيجة- طالما استمرت إسرائيل في سياستها القائمة على الضم التدريجي للضفة الغربية. هناك في الوقت الراهن، ما يقارب 300 ألف مستوطن إسرائيلي في الضفة الغربية، لا يدخل ضمن هذا العدد المستوطنون الملحقون بالقدس الشرقية، الذين يربوا عددهم في الوقت الراهن على 150 ألف مستوطن، والذين ينمو عددهم بشكل مطرد. باستمراره في المفاوضات مع أولمرت، فإن كل ما يفعله الرئيس الفلسطيني سيئ الحظ "محمود عباس"، هو أنه يوفر لإسرائيل غطاءً للاستمرار في توسعها الحثيث في الضفة الغربية، كما يتيح لأولمرت الفرصة التي تمكنه من مواجهة أي ضغط، قد يتعرض له من قبل الولايات المتحدة، من خلال القول إنه مستمر في إجراء المفاوضات واللقاءات مع أبومازن. إن أي مشاركة لـ"حماس" في عملية السلام، ستأخذ هذه العملية إلى مستوى جديد من الجدية، وهو تحديداً الشيء الذي يبدو أن إسرائيل عازمة على تجنبه. لذلك، ليس هناك ما يدعو للاستغراب في الحقيقة، عندما نرى إسرائيل، وهي تنظر إلى الرجل الطيب، المحب للسلام، جيمي كارتر كعدو وليس كصديق.