جاء الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر، الطيب القلب، المحب للسلام، والحاصل على "نوبل" للسلام عام 2002 إلى المنطقة، ورحل خالي الوفاض دون أن يحقق شيئاً. جاء كارتر، تملؤه الآمال بتحقيق السلام في الشرق الأوسط أو في أن يتمكن من وضع حدٍ للنزاع المزمن بين الفلسطينيين والإسرائيليين أو على الأقل في التخفيف من معاناة الشعب الفلسطيني في غزة، لكن الحظ لم يحالفه هذه المرة، بعد أن كان حالفه من قبل مع الرئيس المصري أنور السادات ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن، حين أثمرت جهوده اتفاقية "كامب ديفيد" عام 1978. قبل مجيئه سبقته تصريحاته باستنكار الحصار الظالم على غزة وبضرورة إشراك سوريا و"حماس" في أية مفاوضات للسلام، وأن عزل دمشق و"حماس" سيزيد التوتر والعنف في المنطقة، وأنه سيقابل زعماء "حماس" في القاهرة ثم يزور دمشق ويقابل الرئيس بشار الأسد وخالد مشعل وسيحاول إقناع الأخير خاصة بقبول الحل السلمي مع إسرائيل و"فتح". وهذا أزعج الإسرائيليين وأقلق الإدارة الأميركية التي انتقدت هذه الزيارة ونصحته بعدم مقابلة مشعل حتى لا يستغل هذه المقابلة إعلامياً أو أن يفهم منها -خطأ- أن مجيء "الديمقراطيين" سيكون لصالح "حماس" وسوريا وإيران، وهذا سيجعل "حماس" أكثر تشدداً مما قد يضر بالقضية الفلسطينية أكثر مما يساعد على الحل. لكن كارتر لم يلتفت إلى النصائح والتحذيرات ومضى قدماً في زيارته، وفي القاهرة استقبله زعماء "حماس" استقبالاً ودياً وعانقوه وقالوا له كلاماً طيباً، ثم انتقل إلى دمشق ليقابل الرئيس الأسد وخالد مشعل الذي رحب به وطيب خاطره وأسمعه كلاماً يحبه، وظن كارتر أنه زحزح الجبل، فتسرع وأعلن قبول "حماس" بدولة فلسطينية بحدود 1967 بعد استفتاء شعبي، ونقلت وكالات الأنباء تصريحه. لكن لم يجف مداد تصريحاته حتى أعلن مشعل بأن موافقة "حماس" على دولة فلسطينية مشروطة بعدة شروط: أولها أن تكون عاصمتها القدس، وثانيها أن تكون ذات سيادة تامة، وثالثها إزالة كافة المستوطنات، ورابعها ضمان حق العودة كاملاً، أما الخامس والأخير فهو أن يتم كل ذلك بموافقة الشعب الفلسطيني بناء على استفتاء عام ونزيه... ثم وبعد كل تلك الشروط فإن "حماس" لن تعترف بإسرائيل! يبدو أن "كارتر" تم التغرير به أو هكذا بدا -لأن من حق صاحب أي منطق بسيط أن يتساءل: كيف يتصور أن تعيد إسرائيل الأراضي المحتلة وتزيل المستوطنات وتسمح بعودة اللاجئين وتعترف بالقدس عاصمة للفلسطينيين، من غير مقابل؟! ماذا عند "حماس" لتعطيه لإسرائيل؟ "التهدئة"! من قال إن إسرائيل حريصة على الهدنة أو التهدئة؟ إسرائيل مستفيدة من وضع "اللاتهدئة" في غزة وتستغل صواريخ "حماس" العبثية لتبرير الحصار ومعاقبة الشعب وتعميق الانقسام الفلسطيني، وأيضاً توظف الوضع المأساوي للتهرب من استحقاقات عملية السلام لتقول للعالم وللراعي الأميركي إنه لا مجال للسلام في ظل انقسام الفلسطينيين وتناحرهم، لذلك رفض المتحدث باسم الحكومة الإسرائيلية عرض "حماس" الأخير قائلاً: "حماس ليست جادة، وتحاول إعادة التسلح وتنظيم صفوفها من أجل شراء الوقت استعداداً لهجومها المقبل ضد إسرائيل". إذن ليس لدى "حماس" ما تقدمه غير التهدئة وإسرائيل زاهدة فيها لأنها مستفيدة من الوضع، بل أتصور أن "حماس" أيضاً مستفيدة من هذا الوضع وإن بدت متلهفة -ظاهرياً- على التهدئة! لأن الوضع الكارثي في غزة يتيح لـ"حماس" فرض نفسها على الدول العربية والمجتمع الدولي باعتبارها الطرف الأقوى صاحب الشعبية القادر على تقويض أي جهود سلمية للحل لا توافق عليها، تستغل "حماس" مأساة غزة لتقول للعالم إنها الأصدق تمثيلاً للفلسطينيين والأكثر أهمية في تقرير مستقبل فلسطين، ولذلك فهي تهدد -دائماً- بتفجير الوضع وتحاول تحميل الدول العربية وزر الوضع الكارثي، لأنها (الدول العربية) تساند غريمتها "فتح" ولا يساندونها! بل جعلت غزة جبهة ضغط على مصر. لقد أصبح أهالي غزة أشبه بـ"رهائن" بيد إسرائيل و"حماس"، وكل منهما يوظف معاناتهم لخدمة مخططاته السياسية، فـ"حماس" كلما شعرت بتقدم المفاوضات بين إسرائيل و"فتح" فجّرت الوضع لتخريب عمليات السلام وفرض وجودها. وهذا هو الدافع الرئيسي لاستئنافها عمليات إطلاق الصواريخ، بعد توقف دام 6 أشهر. في تصوري أن "حماس" لا تقبل بدولة فلسطينية تتعايش جنباً إلى جنب مع الدولة العبرية، حتى لو استجابت إسرائيل لشروطها التعجيزية، بل حتى لو وافق الشعب الفلسطيني. فقد صرّح "أبوزهري" الناطق باسم "حماس" قائلاً إن الحركة "ليست ملزمة بأي استفتاء على السلام، وأنها لن تقبل نتائج أي استفتاء فلسطيني على السلام مع إسرائيل"! وقال خالد البطش القيادي في "الجهاد الإسلامي" إن أي استفتاء على السلام مع إسرائيل "مخالف للثوابت الفلسطينية". إن "حماس" لن تعترف بإسرائيل، وهي أصلاً غير معترفة برفاق السلاح من "فتح"، كما أنها لا تهمها معاناة أهل غزة بمقدار نجاحها في مخططاتها، بدليل أنها تجاوزت كل الخطوط الحمراء بانقلابها الدموي وانفرادها بغزة، ولا أدلّ على عدم اكتراث "حماس" بالدم الفلسطيني الهجوم الذي استهدف معبر "ناحال عوز" وهو معبر مخصص لتزويد غزة بالوقود... كيف لمن يهتم بمعاناة شعبه أن يهاجم معبراً يزود الناس بما يخفف معاناتهم؟! دعونا نتساءل: لماذا لم تحقق جولة كارتر أهدافها كما حصل قبل 30 عاماً في "كامب ديفيد"؟ هناك العديد من الأسباب من أهمها: عدم رغبة الطرفين المتصارعين في إنهاء التوتر، ومنها أن "حماس" لا تملك بالكامل قرارها المستقل بسبب ارتباطاتها الوثيقة والمتشابكة بأطراف إقليمية وعربية ليس من مصلحتها تحقيق السلام في هذه المرحلة، لذلك لا تملك "حماس" اتخاذ القرار دون مشاورة حلفائها الكبار، إيران وسوريا، ومنها أن "حماس" جزء من تنظيم "الإخوان" وهي مرتبطة به أيديولوجياً، و"الإخوان" لا يعترفون بإسرائيل وإلا فقدوا شرعيتهم السياسية والدينية، ومنها أن "حماس" يحكمها "الموروث الفقهي" القائل بأنه لا تجوز "الهدنة" أكثر من 10 سنوات قياساً على صلح الحديبية حيث هادن الرسول صلى الله عليه وسلم أعداءه لمدة عشر سنوات فقط. وهؤلاء الذين يراهنون على الحوار الداخلي مع "حماس" واهمون ويتعلقون بأمل زائف، لأنه لا أحد من "حماس" تحدث عن تسوية سلمية مع إسرائيل وإنما هم منقسمون بين مؤيد لتهدئة قصيرة ومؤيد لتهدئة طويلة (هدنة) لكن لا حديث عن السلام الدائم. وهناك اليوم جملة من المتغيرات السياسية الحاكمة للساحة من شأنها عرقلة أية تسوية سياسية في هذه المرحلة، منها النفوذ الإيراني الممتد والمتغلغل في العمق العربي وأطرافه، فإيران اليوم تملك أوراقاً عربية تلعب بها في مواجهة خصمها الأميركي. والمد الأصولي المتنامي في تجلياته ومظاهره وإفرازاته المتشددة لا يسمح بأي حديث عن السلام فضلاً عن الاتهام بالعمالة والخيانة والتكفير لكل من ينادي بالتسوية. وكارتر (القديم) حين صنع "كامب ديفيد" ونجح (لولاه ما تحقق كامب ديفيد) غير كارتر (اليوم)، كان رئيساً يملك الصلاحيات وأساليب الضغط، وهو اليوم متقاعد لا يملك نفوذاً أو سلطة. وكان هناك قائداً تاريخياً فذاً هو الرئيس السادات الذي اتخذ قراراً تاريخياً والتزم به ولم يأبه بالمخالفين والمعترضين وهم أغلبية العرب والمصريين، وتحمل المقاطعة العربية، لكنه صمم وعاند ونجح واسترد أرضه وقناته وجنب مصر المزيد من الكوارث، وأثبتت الأيام بعد نظره وصوابية قراره، لكن من أين لـ"حماس" بمثل ذلك القائد التاريخي؟! إذن لماذا قام كارتر بزيارته إذا كانت الأوضاع في المنطقة غير مهيأة؟ جاء كارتر لهدفين: شخصي؛ ليذكّر سكان المنطقة بمجده القديم صانعاً للسلام، وحزبي؛ لاستمالة الناخبين العرب الأميركيين لحزبه بوصفه مناكفاً للإدارة الحالية.