تتجاذب الدول العربية اليوم رياح متفاوتة، وتعصف بها موجات هائلة؛ فمن موجات الإرهاب إلى موجات الديمقراطية وموجة حقوق الإنسان. وتحاول الدول العربية، وبمجهود طائل، التواؤم والتكيف للتعاطي مع تلك الموجات مع المحافظة على رسوخ كياناتها وبنى أنظمتها الحاكمة بعيداً عن التغيير الفعلي. وحاولت النخب الحاكمة تقبل أفكار التغيير لا قبوله حفاظاً على كيانها بوضع فريد ومطابق لنظرية التطور والارتقاء للعالم "داروين". لقد ضربت العالم ثلاث موجات من الديمقراطية انتهت بموجة الدمقرطة التي جلبتها أحداث الحادي عشر من سبتمبر، التي أعلنتها الولايات المتحدة موجة موجهة لدمقرطة العالم العربي والإسلامي. موجة أثارت هلعاً لا محدود في النظم العربية خاصة الصديقة لواشنطن، بعد أن كان استقرار هذه النظم له الأولوية على أطروحات السياسة الخارجية الأميركية في الديمقراطية وحقوق الإنسان. لقد انقلبت الآية، وها هي الآلة الإعلامية الأميركية، وبدعم حكومي، تُعري النظم العربية، وتُزايد على الخطاب الرسمي الداعي لنشر الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان، لكنها موجة سرعان ما تكسرت على صخور شواطئ الدول العربية الراسخة. لقد تفاعلت عوامل داخلية وخارجية في إفشال موجة التحول الديمقراطي في غالبية الدول العربية، ومن السهولة بمكان الإحاطة بها خاصة مع تشابه بنى النظم العربية وتطابق عناصر مجتمعاتها مع تفاوتات بسيطة في تطور بنى المجتمع المدني فيها، فمن ناحية العوامل الداخلية سارعت معظم النظم العربية لتبني خطاب التغيير والإصلاحات السياسية، وبدأت معظم الدول العربية في السنوات الست الماضية، والتي أعقبت الحادي عشر من سبتمبر بإجراء انتخابات وفتحت المجال لأحزاب المعارضة بالمشاركة في الانتخابات سواء التشريعية أو الرئاسية، وبدا للسذج في السياسة العربية أن هذه النظم جادة بالفعل في التغييرات السياسية. لقد ناورت النظم العربية وبذكاء في مواجهة أخطر أزماتها السياسية، وهي أزمة البقاء، فعملت على تخفيف واحتواء الضغوط الخارجية بالمقام الأول والضغوط الداخلية -إن وجدت- بالحديث عن ضرورة التغيير من الداخل لا الخارج، وقام الإعلام الرسمي الموجه بالتأكيد على خصوصية المجتمعات العربية وصعوبة تبني واستنساخ بُنى جاهزة نشأت وتطورت في مجتمعات أخرى لها خصوصيتها الثقافية والدينية. كما طرحت النظم العربية فكرة التدرج في الإصلاحات السياسية وصولاً للديمقراطية كما سيطر خطاب مناوئ للتغيير بحجة تقليدية هي أن المجتمعات العربية، لازالت غير مهيأة للتغيير الديمقراطي، وأن الديمقراطية ستعمل على خلخلة البنى الاجتماعية الضعيفة، وبالتالي انهيار هذه المجتمعات، وبذلك انتهت مشاريع الدمقرطة والإصلاحات قبل أن تبدأ عملياً. لعبت النظم العربية وبمهارة على هاجس صعود التيارات الإسلامية في الدول التي اتخذت خطوات للتغيير الديمقراطي الفعلي. وشكل وصول حركة المقاومة الإسلامية "حماس" للسلطة اختباراً فعلياً للدول الغربية المنادية بالديمقراطية، وكان فشلها فيه ذريعاً. وببراعة تُحسد عليها استطاعت هذه النظم توظيف معايير الغرب المزدوجة في بقائها بتقليم أظافر ديمقراطية قد تخدش بقاءها. واستطاعت كذلك أن توظف موضوع حقوق المرأة بذكاء، فدفعت بالقيادات النسائية لواجهة الصورة الحكومية فتم تعيين الوزيرات والمديرات التنفيذيات في أعلى سلم السلطات السياسية والتشريعية وحتى القضائية، ووظف الإعلام المرأة في خطابه للخارج بما يدعم النظم السياسية الداعمة للمرأة حتى في حصولها على حقوقها السياسية. وبالمحصلة ساعد خطوات تمكين المرأة وسيل المؤتمرات والندوات الداعمة لحقوق المرأة والتي نظمت برعاية من المنظمات الدولية وبزخم إعلامي واسع إلى تخفيف الضغوطات عن النظم الحاكمة، فالمعادلة في النهاية لا تعني أي خسارة فعلية. من ناحية أخرى، لا يمكن غض النظر عن ممارسات النخب العربية المثقفة، والتي تكيفت كما نظمها اليوم مع سياسات القمع المنظمة التي مارستها نظمها الحاكمة لسنوات مفضلة خيار البقاء، النخب المنشغلة بالسياسات الأميركية والقضية الفلسطينية على حساب قضاياها الوطنية والمعادية تقليديا للخطاب الأميركي، حتى لو حمل بذور التغيير والإصلاح التي تطالب بها لسنوات، فشككت في جدية الطرح الديمقراطي الغربي، فلم تمارس ضغوطاً داخلية جدية على نظمها تتوافق مع الضغوط الخارجية. أما عن العوامل الخارجية التي ساهمت في تحجيم المد الديمقراطي، فقد كان الربط بين انتشار الإرهاب ونقص الديمقراطية، هو الكبوة الكبرى في تبني الدعوة للاصلاحات السياسية، فالنظم العربية سارعت للانتماء لمعسكر محاربة الإرهاب مشمرة السواعد لمحاربة حتى تيارات الإسلام السياسي المعتدل، فقدمت كامل دعمها لمحاربة هذه التيارات لدرجة أنها قامت بترحيل مواطنيها. وكشرت الاستخبارات العربية عن أنيابها لتضعها في خدمة راعي الديمقراطية، ضاربة عرض الحائط بقصص السيادة الوطنية، فكان الخيار بين دعم نظم تحارب الإرهاب أو دعم توجهات سياسية قد تهدد حالة الاستقرار الكاذب في تلك النظم. خيار غربي لاشك أنه صعب، تاهت معه خريطة الإصلاحات السياسية. ومن ناحية أخرى كانت تجربة دمقرطة العراق فشلاً صارخا لمشروع دمقرطة الشرق الأوسط، وكان السقوط المخزي للسياسات الأميركية بفضائح متتالية من سجن "أبوغريب" إلى سجون الـ"سي. آي. إيه" الطائرة والسرية في دول تسعى لدمقرطتها. كان لانحسار موجة الديمقراطية بما رافقها من أحداث سياسية نتائج كارثية على الساحة العربية، فقد تصاعدت قوة الحركات الإرهابية لتوجد لنفسها موطئ قدم بالعراق، ومن ناحية أخرى تصاعدت وتيرة الدعم الشعبي للتيارات الإسلامية لإفلاس النظم القائمة وعدم توفر بدائل ملائمة، مما يعزز خيار استمرار الأمر الواقع. ولعل الأخطر من كل ذلك الظهور المتصاعد للانقسامات الإثنية والعرقية والمذهبية على حساب الدولة الوطنية في العديد من الدول العربية، وعليه تضاءل الاهتمام الدولي لمشروع دمقرطة الدول العربية لتتنفس نظمها الصعداء فقد مرت الموجة الديمقراطية بسلام. وعود على بدء في العام 1985 ألقى الشاعر نزار قباني قصيدة حملت عنوانا يحمل تساؤلاً غير مشروع:"لماذا يسقط متعب بن تعبان في امتحان حقوق الإنسان؟: "معتقلون داخل النص الذي يكتبه حكامنا معتقلون داخل الدين كما فسره إمامنا مراقبون نحن في المقهى وفي البيت وفى أرحام أمهاتنا حيث تلفتنا وجدنا المخبر السري في انتظارنا. يشرب من قهوتنا ينام في فراشنا يعبث في بريدنا ينكش في أوراقنا.