تغيير كبير في أعلى هرم القيادة العسكرية الأميركية، وسط توترات وتحديات تواجهها الاستراتيجية العسكرية للولايات المتحدة في العالم، يضع اللفتنانت جنرال "رايموند أوديرنو" على رأس القوات الأميركية في العراق، خلفاً للجنرال ديفيد بترايوس الذي سيتولى منصب قائد القيادة العسكرية الأميركية الوسطى. فقد أعلن وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس، يوم الأربعاء الماضي، تسمية بترايوس لقيادة العمليات العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط وجنوب آسيا وآسيا الوسطى وشرق أفريقيا، وقال غيتس إنه بالاتفاق مع رئيس هيئة الأركان المشتركة، رفع توصية الى الرئيس جورج بوش ووافق عليها، بتعيين بترايوس قائداً جديداً للقيادة الوسطى. لكن قرار التعيين لا يصبح نافذاً إلا بحصوله على موافقة مجلس الشيوخ. وإذا ما تمت المصادقة على تثبيت الجنرال بترايوس في منصبه الجديد ليحل محل الأدميرال السابق وليام فالون، فسيكون مسؤولاً عن التعامل مع أكبر التحديات التي تواجه الجيش الأميركي، وهي الحرب في العراق والجهود العسكرية في أفغانستان، ونشاط "القاعدة" في باكستان، والتوتر مع إيران على عدة جبهات... فمن هو بترايوس؟ وما هي مؤهلاته للاضطلاع بتلك المهام والتحديات؟

يعتبر بترايوس أحد أكفأ الضباط الأميركيين في مجال الحرب على الإرهاب ومكافحة الحركات المسلحة، وقد نال شهرة واسعة في أوساط الإدارة والكونغرس لابتداعه وتنفيذه استراتيجية أمنية جديدة في العراق، كان من نتائجها تحسن الوضع الأمني هناك، وقد وصفه غيتس بأنه أكثر جنرال أميركي مؤهل لرئاسة القيادة الوسطى وإدارة عمليات مكافحة التمرد ومواجهة التهديدات في مختلف أنحاء المنطقة.

وتأتي حرفية الجنرال ديفيد بترايوس وخبرته من مسار مهني وحياة عسكرية طويلين، فقد ولد في نيويورك عام 1952، لوالدين من أصول هولندية، وكان والده يعمل بحاراً، أما هو فاختار بعد تخرجه من مدرسة "كورنيل" العليا عام 1971، أن ينضم إلى القوات المسلحة الأميركية، وبعد تخرجه من الأكاديمية العسكرية الأميركية الشهيرة "ويست بوينت" عام 1974، واصل حياته العسكرية بشغف كبير، وحين قرر تكوين أسرة اختار الزواج بابنة جنرال أميركي متقاعد كان رئيساً لأكاديمية "ويست بوينت" نفسها. خدم بترايوس في كتيبة المشاة بالقوات البرية، وترقى في سلم الرتب العسكرية، وعمل في عدد من الوحدات داخل الولايات المتحدة وفي أوروبا والشرق الأوسط. وإن لم يشارك في حرب العراق عام 1991 بسبب إصابته أثناء تدريب عسكري حيث سقط أحد الجنود وأطلق النار عليه بالخطأ وأصابه في صدره، فإنه شارك في اجتياح العراق عام 2003 حيث قاد الكتيبة 101 الجوية التي تولت احتلال الموصل. ثم أسندت له في يونيو 2004 مهمة بناء جيش وشرطة عراقيين جديدين، وقد أصاب نجاحاً نسبياً في مهمته، إذ يملك العراق حالياً جهاز شرطة من 190 ألف رجل، وجيشاً يضم 130 ألف عسكري مدرب.

بعد إعلان "استراتيجية بوش الجديدة" في العراق، وتشمل زيادة عدد الجنود الأميركيين هناك، تم تعيين بترايوس في مارس 2007 على رأس القوات الأميركية في بلاد الرافدين، وكان ذلك بمثابة الأمل الأخير لواشنطن للخروج من مأزقها في العراق، والذي كانت أغلب مناطقه خارج نطاق السيطرة الأميركية، وكان كله تقريباً على شفا حرب أهلية. شرع بترايوس حينها بتنفيذ استراتيجية جديدة؛ فأمر قواته بترك القواعد الكبيرة وإقامة مواقع أصغر مع القوات العراقية، كما قلل التصرف بعدوانية عسكرية كبيرة، وحاول بناء علاقات مع العراقيين وكسب ثقتهم. وقد أدت هذه الاستراتيجية إلى ظهور "الصحوات"، وإلى تراجع نفوذ "القاعدة"، كما أدت أيضاً، حسب الإحصائيات العسكرية الأميركية، إلى انخفاض الهجمات في الفصل الأول من العام الجاري بنسبة 60% مقارنة بالفترة نفسها من عام 2007، وإلى تراجع عدد القتلى المدنيين بنسبة 75% خلال الفترة ذاتها أيضاً.

ومع ذلك يرى أعداء بترايوس داخل المؤسسة العسكرية الأميركية، أنه "طموح للغاية" و"انتهازي بطبعه"، وأن حِرفيته العسكرية أقل في الواقع مما يقال عنها إعلامياً، وأن المكاسب الأمنية في العراق "هشة" وعرضة للانهيار، كما قال هو نفسه وكما تُظهِر المواجهات الحالية مع "جيش المهدي"، وأن فشله في بناء جيش عراقي وتحقيق النتائج المتوخاة من ذلك البرنامج الذي وُكِلَ إليه، يفسر جزئياً مشاكل الرئيس بوش الحالية. ويشير هؤلاء المنتقدون إلى شهادة بترايوس الأخيرة أمام الكونغرس، والتي حذر فيها من الانسحاب ومن تخفيض القوات الأميركية في العراق، قائلين إنها شهادة صِيغتْ بإملاءٍ من بوش ونائبه ديك تشيني كغطاء لتبرير استمرار الوجود العسكري الأميركي في العراق، ولترحيل المأزق الأميركي في هذا الشأن إلى الإدارة القادمة.

على كل حال يعكس تعيين بترايوس في منصبه الجديد، رغبة البنتاغون في نقل وتطبيق خبرته في محاربة التمرد في العراق على أفغانستان، حيث تزداد وتيرة العنف وحيث تبذل قوات "الناتو" جهوداً كبيرة للحفاظ على مكاسبها في مواجهة "طالبان" و"القاعدة". وإلى ذلك فسيشرف بترايوس على العمليات العسكرية الأميركية في منطقة واسعة تضم إيران وباكستان و25 بلداً آخر، بالإضافة إلى المياه الدولية المهمة استراتيجياً واقتصادياً؛ مثل الخليج العربي والبحر الأحمر، علاوة على مضيق هرمز الذي يعد أهم مضيق لتصدير إمدادات النفط على مستوى العالم. وبسبب جسامة هذه المسؤولية، وبالنظر إلى معطيات جيوسياسية أخرى، لا يتوقع محللون كثيرون أن يحقق بترايوس في الأمد المنظور، نجاحاً قريباً مما تحقق في العراق، سواء تعلق الأمر بأفغانستان أو باكستان أو إيران. وفيما يخص الأخيرة تحديداً، فإن بترايوس يعتبرها أخطر تهديدٍ طويل المدى للعراق، وذلك خلافاً لسلفه "فالون" الذي استقال من منصبه فجأة قبل حوالي شهر من الآن، بسبب اعتراضه على سياسة المواجهة ورفض الحوار مع طهران... بينما يرى منتقدو بترايوس أنه يردد كلمات بوش حرفياً فيما يتعلق بإيران، كما استنسخها متحدثاً عن "كارثية" الانسحاب من العراق!



محمد ولد المنى