أطلقت منظمة الصحة العالمية يوم الجمعة الماضي العديد من الأنشطة والفعاليات الدولية، ضمن احتفالات اليوم العالمي للملاريا (World Malaria Day)، الذي أحتفل به للمرة الأولى في الخامس والعشرين من الشهر الجاري. وضمن هذه الفعاليات، خرج "بان كي مون" سكرتير عام الأمم المتحدة على العالم برسالة فيديو، مطالباً فيها بوقف الوفيات الناتجة عن الملاريا بنهاية عام 2010 كهدف أساسي ضمن أهداف الألفية للتنمية (Millennium Development Goals)، الساعية إلى خفض الفقر ورفع مستوى نوعية الحياة للكثير من شعوب ودول العالم بحلول عام 2015. ولكن كيف يمكن لوقف الوفيات الناتجة عن مرض واحد أن تدحر الفقر، وأن ترفع من مستوى معيشة شعوب ودول بأكملها؟ الواقع أن إجابة هذا السؤال تتلخص في حقيقة أن الملاريا مرض يصنف ضمن الأمراض التي أثرت بشكل فادح في مقدرات الجنس البشري منذ أن وطئت قدمه سطح الأرض، بالإضافة إلى أنه مرض لا زال يفتك بأعداد هائلة من البشر حتى الآن. فقبل أكثر من مئة وسبعين مليون سنة، ظهرت على سطح الأرض حشرة ضئيلة الحجم، اعتمدت في غذائها على دماء الثدييات، وأحياناً دماء الطيور والزواحف. هذه الحشرة، أو البعوضة، سقطت هي الأخرى فريسة لكائن أصغر وأدق حجماً، هو طفيلي الملاريا الذي يعتمد في دورة حياته على نهش وافتراس أحشاء البعوض. ومنذ أن ظهر الإنسان على سطح الأرض، وظفته البعوضة كمصدر وفير من الدماء، واستغله طفيلي الملاريا كحاضنة لتربية أجيال متتابعة من الطفيلي، داخل كبده وفي كريات دمه الحمراء. وقد امتدت هذه القصة الدموية على مدار مئات الآلاف من السنين، لتظهر خلاصتها حالياً في شكل أكثر من خمسمائة مليون ضحية سنوياً لمرض الملاريا من بني البشر، يلقى ما بين مليون إلى ثلاثة ملايين منهم حتفهم كل عام. وحسب هذه التقديرات، وبحسبة بسيطة وسريعة، يمكننا أن ندرك لماذا يؤمن البعض بأن عدد ضحايا الملاريا من البشر، يفوق عدد من قتلتهم الصراعات المسلحة والحروب البشرية، منذ جريمة قتل قابيل لهابيل. وبحسبة بسيطة وسريعة أيضاً، يمكننا أن ندرك أنه على رغم مخاوف الكثيرين من الحيوانات الضارية، مثل أسماك القرش أو الأسود والنمور والفهود وغيرها، وعلى رغم أن الزواحف السامة مثل العقارب والثعابين تثير الرعب في قلوبنا جميعاً، إلا أن الحقيقة هي أن الإصابات والوفيات التي تنتج كل عام عن هذه الحيوانات مجتمعة، لا تبلغ جزءاً ولو بسيطاً من عدد الوفيات الناتجة عن البعوض وحده. وهو ما يجعل -إحصائياً على الأقل- احتمالات وفاة المرء من لدغة بعوض، أضعافاً مضاعفة لاحتمالات وقوعه فريسة لأحد الحيوانات الضارية. وبناء على هذه الأرقام، والإحصائيات، والاحتمالات، يعتبر البعوض بما يحمله من طفيلي الملاريا وغيره من الطفيليات والفيروسات، هو عدو الإنسان رقم واحد. حيث تحتل الملاريا رأس قائمة الأمراض المُعدية من حيث عدد الوفيات، متسببة في ثلاثة ملايين وفاة كل عام حسب بعض التقديرات، ومتفوقة بذلك على الأيدز الذي يقتل 2.1 مليون، وعلى مرض السل الذي يقتل 1.6 مليون هو الآخر. ولذا يعتبر القضاء على الملاريا إحدى أهم أولويات جهود العاملين في المجال الصحي حول العالم، وهي الجهود التي لم تكلل حتى الآن بالنجاح. فمثلاً في عام 1998، سعت المبادرة الدولية لدحر الملاريا (Roll Back Malaria Initiative)، إلى خفض عدد الوفيات بحلول عام 2010. ولكن بعد مرور نصف الفترة الزمنية اللازمة لتحقيق أهداف المبادرة، اكتشف القائمون عليها أن عدد الوفيات لم ينخفض، بل على العكس شهد زيادة ملحوظة. وهذا لا يعني أن الملاريا مرض لا يمكن دحره وهزيمته، كما يتضح من قصة دولة الإمارات في هذا المجال. ففي عقد الستينيات، وبداية عقد السبعينيات، كان معدل الإصابة بالمرض يتراوح بين 30 إلى 60 في المئة، حسب وزارة الصحة. ولكن مع بدء تطبيق استراتيجية المكافحة الشاملة منذ عام 1977، نجحت الجهات الصحية المحلية في خفض معدلات الإصابة بأكثر من 70 في المئة بحلول عام 1985، وتوقف انتقال المرض كلياً بحلول عام 1998. ونجحت الإمارات منذ ذلك الوقت، في الحفاظ على وضعها كأول دولة في إقليم شرق المتوسط، يتأكد لمنظمة الصحة العالمية والهيئات الصحية الدولية خلوها من المرض نهائياً. ولكن للأسف، لم تتكرر قصة النجاح هذه في مناطق ودول العالم الأخرى، ففي الشرق الأوسط مثلاً، لا زالت الملاريا تستوطن الساحل الغربي لإيران، ومنطقة الأهوار وشرق العراق، وجنوب شرق ووسط تركيا، ومعظم المناطق الساحلية في اليمن، ومنطقة عسير بالسعودية. هذا بالإضافة إلى بعض البؤر المعزولة في دول أخرى، مثل منطقة الواحات في مصر، ومنطقة الحدود الجنوبية المشتركة بين ليبيا والجزائر، وبعض المناطق في عمان والمغرب. وتكمن المأساة في موضوع الملاريا في أنها مرض يمكن الوقاية منه، وعلاجه. فمن خلال استخدام العقاقير الوقائية، ورش المبيدات الحشرية داخل المنازل، واستخدام الناموسيات المشبعة بالمبيدات الحشرية، وغيرها من وسائل مكافحة تكاثر وتوالد البعوض، يمكن خفض عدد الإصابات وما ينتج عنها من وفيات بشكل كبير. ولكن بسبب إساءة الإنسان استخدام العقاقير الوقائية والمبيدات الحشرية، لا زالت الملاريا تقتل الملايين عاماً بعد عام. وهذا لا يعني أننا قد خسرنا الحرب تماماً ضد الملاريا، كما يتضح من نجاح الإمارات في القضاء على هذا المرض اللعين، وهي التجربة التي يجب على الآخرين أن يستفيدوا منها في جهودهم لتخليص أوطانهم ومدنهم من تفشي الملاريا فيها. د. أكمل عبد الحكيم