تفاقمت أزمة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية عقب حرب لبنان الأخيرة، وقد امتد الجدل حول شرعية الدور الذي يقوم به الجيش في المجتمع ومدى سلامة المقولات وشرعية الآمال والأساطير المتعلقة به، والتي تحطمت في الحرب الأخيرة، أولى الحروب في مرحلة ما بعد الصهيونية. ويذهب الكاتب رؤوبين بدهتسور (هآرتس 26 أغسطس 2007) إلى أن "الجيش الإسرائيلي يزداد دلالاً رغم إخفاقه في الحرب الأخيرة"، فبدلاً من تقديم فاتورة الحساب يُعطونه المزيد من الميزانيات والألعاب الحربية". "لقد اختار قادة الجيش الحل الأسهل بعد الفشل في الحرب، وهو المزيد من التسلح وتوسيع صفوف الجيش". (ويقصد به الخطة الخماسية التي تبناها رئيس الأركان عقب الحرب). ويستنكر الكاتب التفكير التقليدي للقيادة العسكرية الإسرائيلية الذي انحصر في زيادة كميات الأسلحة فيقول:"ليس العتاد هو ما يحتاجه الجيش الاسرائيلي أو زيادة الميزانية... إن مطلب شراء دبابات ميركافا اضافية يُجسّد الجمود الفكري الذي أُصيب به قادة الجيش... فاحتمالية تحقق سيناريوهات القتال التي تُستخدم فيها آلاف الدبابات شبه معدومة، وفي تلك الحالات التي ستكون فيها حاجة لاستخدام المدرعات يمتلك الجيش كميات كافية من الدبابات". ويصل الكاتب إلى أن "عهد الحروب المباشرة في منطقتنا قد ولّى. حرب المستقبل سترتكز على استخدام الجو والصواريخ البالستية والصواريخ قصيرة المدى وأطر القتال البرية الصغيرة. هذه هي العبرة من حرب لبنان الثانية". وأعتقد أن تشخيص الكاتب للقضية في تصوري ليس دقيقاً، فالإشكالية الكبرى التي تواجهها إسرائيل هي كيفية القضاء على المقاومة، فهل "استخدام الجو والصواريخ البالستية والصواريخ قصيرة المدى...إلخ" يقضي على المقاومة؟ ويذهب "أمير أورن"، مراسل صحيفة "هآرتس" لشؤون الجيش (5 سبتمبر 2007)، إلى أن الخطة الخمسية التي وضعها رئيس هيئة الأركان لن تنجح في إنهاض الجيش الإسرائيلي من وضعه المتردي، فالجهاز العسكري يحتاج إلى خطة كإطار للتفكير والعمل. وينتقد الكاتب أيضاً الاهتمام المفرط بالتطويرالكمي الذي يتجه له واضعو الخطة على حساب التطوير الكيفي، فيقول:"في خطة إشكنازي (قائد الجيش)عدد كبير من الدبابات والطائرات والتهديدات والتحديات والانعطافات، وهي خطة تفتقد تماماً إلى البُعد القيمي الذي ينفخ الروح في الجسم". ثم يعطي الكاتب وصفاً لجيش الدفاع الإسرائيلي،الجيش الذي كان يدّعي أنه لا يُهزم! "إنه جيش لم يتمكن من إعادة بناء جهاز المناعة لديه، جيش مليء بالدسائس والنمائم وضرب الخناجر". ويثير الكاتب شكوكاً بمقدرات "إشكنازي" على أن يعيد للجيش ليقاته القتالية فيصفه بأنه مجرد "مدير عمل لا يمكنه التسامي إلى مستوى القائد. فهو يقوم بإلزام الوحدات الميدانية بالعمل المرهق، فيعطي الجنود عملاً (منهكاً) حتى يسقطوا على الأرض تعباً ولا يشغلون القيادة بأمور أخرى". ويرى "عوفر شيلح"، وهو كاتب رئيسي في صحفية معاريف (4 سبتمبر 2007)، أن ثمة حالة من فقدان الأمل تسيطر على الوجدان الإسرائيلي، فيذهب إلى أن القيادة السياسية والعسكرية في اسرائيل تزرع اليأس في الشعب"، وأن "كلمة "الأمل" في السنين السبع الأخيرة أصبحت كلمة نابية تقريباً لا يرغب فيها أحد...لم يعد هناك "غد" في السنين الأخيرة. فالدولة الأقوى في الشرق الأوسط وخارجه، وقادة الجيش الذي يملك قوة تقارب القوى العظمى، وربابين الدولة التي يقترب مستوى الحياة فيها من مستوى أوروبا، كل أولئك لا يشعرون حتى بالحاجة إلى رؤيا بعيدة ليوم آخر. لقد حل إحساس قوي بالتضحية والمسكنة ( أي أن الجنود الإسرائيليين يشعرون أنهم يضحون بأنفسهم، ولكنهم بدلاً من أن يروا ذلك واجبهم، فإنهم يمنون على الجمهور به) حلت هذه الرؤية محل رؤية ديان المتشائمة للعالم. كانت الحرب عنده في تأبينه لروي روتبيرج "قدَر جيلنا"، ومن هنا ظهرت عبارة "إين بريرا" لا خيار، ولكن حينما كان يقولها "ديان"، فإنه كان يطرح رؤية ترى أن الاستمرار في الجاهزية العسكرية وفي البطش بالفلسطينيين ستقنعهم في نهاية الأمر بتقبل إسرائيل. ولكن الوضع أصبح مختلفاً تماماً، حسب تصور الصحيفة، فالحياة في الدولة الصهيونية "ستظل تجري على نفس المنوال صادرة عن اليأس والغضب. لكن لا يعجبن أحد إذا سأل أناسٌ شبان أنفسهم لماذا يُجندون أو يتطوعون من أجل أفق أسود" (وطريق مسدود)؟ وتعلق أسرة تحرير هآرتس (18 سبتمبر 2007) على النتائج غير العملية التي خرجت بها لجنة تحقيق "فينوغراد"، فتقول إن "الردع لا يرمم في لحظة". "فالردع هو كلمة جميلة ومشجعة، ولكن من الصعب قياسها، وأن من الأسهل قياس وتشخيص الغرور والرضا المبالغ فيه الذي أصيبت به القيادة السياسية. وأن قدرة الردع الاسرائيلية تُقاس كل يوم أيضاً في غربي النقب، حيث تسقط مئات صواريخ "القَسام" في الشهر ولا تنجح إسرائيل في إيجاد رد رادع لها. من الصعب أن ننسى أيضاً هشاشة الجبهة الداخلية الاسرائيلية عندما تبينت هذه (الجبهة) قبل سنة فقط القدرة الكامنة لدى الانتحاريين ممن لا يردعهم شيء". من زاوية مختلفة يمكننا تلمس رؤى "اليمين" الإسرائيلي وردود أفعالهم تجاه أزمة المؤسسة العسكرية، حيث يرى "يسرائيل هرئيل" ، وهو واحد من أكبر المنظرين للاستيطان في الكيان الصهيوني، أن الاحتواء أضعف الجيش الإسرائيلي (هآرتس 3 يناير 2008)، فيقول:"من يريد أن يعرف سبب فشل الجيش الاسرائيلي في الحرب سيجد في تقرير فينوغراد، بالإضافة إلى استخلاصاته المهمة والمؤلمة حول إخفاقات الجيش، رداً مركزياً: سياسة الاحتواء في الشمال، أوصلت الجيش إلى الشلل والوهم... الاحتواء الذي يعتبر تسمية ملطفة لسياسة ضبط النفس والامتصاص. وبسبب الفشل في لبنان، حاول أولمرت الانتقال من الاحتواء إلى الحسم، ولكنه عاد سريعاً بعد فشل لبنان إلى ضبط النفس في مواجهة صواريخ "القسام" في النقب. هنالك افتراض بأنه لم يكن ليستخدم هذه السياسة لولا اكتشافه أن الجمهور يعارضها. رئيس الوزراء يعرف نفسية جمهوره، وهو الجمهور الوحيد في العالم ربما الذين يعتبرون ضبط النفس وتحمل الآلام والضحايا سواء في كريات شمونة أو سديروت سياسة صحيحة يتوجب الاستمرار فيها". عمّ يتحدث هذا الصحفي؟ هل يعني أن إسرائيل تمارس "ضبط النفس وتتحمل الآلام من أجل الضحايا" ولا تمارس البطش بما يكفي ضد الفلسطينيين؟ ألا يسمع هذا الرجل شيئاً عن المحرقة وعن تجويع الفلسطينيين شهوراً وشهوراً، وعن الطوابير الطويلة أمام الحواجز التي يقيمها الصهاينة والتي يموت أمامها المرضى والعجائز والحوامل؟ عمّ يتحدث هذا الرجل؟! وقد دفعت الأزمة الراهنة العديد من الكتابات للرجوع إلى التاريخ لمحاولة تفسيرها وسبر أغوارها. فكتب "أماتسيا حين" العقيد في قوات الاحتياط، مقالاً بعنوان "الجيش الإسرائيلي بدأ بالانزلاق في منحدر أملس منذ حرب الأيام الستة" (يديعوت احرونوت 17 سبتمبر 2007)، يقول فيه:"إذا كنتم تريدون فهم سبب ضعف الجيش الاسرائيلي في حرب لبنان الثانية فعليكم أن تعودوا بنظركم إلى أربعة عقود إلى الوراء، وصولاً إلى حرب الأيام الستة. لقد بدأ الجيش الاسرائيلي منذ ذلك التاريخ بالانزلاق في منحدر أملس"."فالانتصار في حرب يونيو شوش عقل الأمة بأكملها، وأثّر في نشاط الجيش المتواصل حتى يومنا هذا. لهذا لم يكن عبثاً أن أحداثاً خطيرة قد جرت بعد الحرب، مثل فشل القوات المسلحة في معركة الكرامة، فقد اعتبرت مجرد أمر عابر". ثم تُختم المقالة بجملة في غاية الدلالة: "أنا أُوصي المواطنين بأن يعترفوا بحقيقية أنه لم يكن لإسرائيل أبداً جيش حقيقي". هذه هي الصورة العامة لـ"جيش الدفاع الإسرائيلي"، وما أصابه من تآكل بسبب استمرار المقاومة العربية سواء في فلسطين أم لبنان. وقد أخبرني اللواء حسن البدري، مؤرخ الجيش المصري -رحمه الله- أن الجيش النظامي الذي يستخدم في قمع عصيان مدني لمدة أكثر من ستة أشهر، يفقد مقدرته القتالية، فما بالكم بجيش انغمس في هذه العملية غير العسكرية ما يزيد عن عشر سنين؟! هذا الكلام موجّه للنخب العربية التي تتصوّر أن المقاومة جهد لا طائل من ورائه، وأنه لا حل إلا من خلال المفاوضات مع الدولة الصهيونية ومن خلال الضغوط الأميركية التي يمكن أن تمارسها على الدولة الصهيونية. والله أعلم.