في الوقت الذي يشهد فيه العالم ارتفاعاً كبيراً في أسعار المواد الغذائية يهدد بتفجير أزمة غذاء عالمي في البلدان النامية، وفي الوقت الذي يدق فيه العلماء والمهتمون ناقوس الخطر محذرين من تداعيات التغير المناخي على برامج التنمية الاقتصادية في البلدان الفقيرة، يأتي كتاب الخبير الاقتصادي "جيفري ساكس"، مدير معهد الأرض بجامعة كولومبيا الأميركية بعنوان "الثروة المشتركة: الاقتصاد في عالم مزدحم"، ليتعقب المشاكل الاقتصادية الكبرى التي تواجهها الدول النامية والفقيرة وليطرح الحلول التي يرى أنها قادرة على خلق تنمية مستدامة وتجنيب العالم صراعات حول الموارد المتناقصة. لكن المقاربة التي يعتمدها المؤلف في تشخيص الصعوبات الاقتصادية وتوصيف طبيعتها، تختلف عن تلك التي تنتهجها المدارس التقليدية في علم الاقتصاد. فبدلاً من الركون إلى الأنساق الاقتصادية الكبرى، والتي غالباً ما تكون منغلقة على نفسها وغير متفاعلة مع الواقع المُراد تغييره، أو على الأقل تصويب اختلالاته، يصب الكاتب اهتمامه على التفاصيل والمشاكل المحددة مبتعداً عن النظريات الكبرى. ولأن القضية الأولى بالنسبة لـ"ساكس" هي آفة الفقر في العالم وسبل مواجهتها، فهو يرى بأن ذلك الهدف لن يتحقق إلا إذا وضع في سياقه العام. فالفقر من وجهة نظر الكاتب ليس قدراً محتوماً، بل هو نتيجة عوامل قديمة وأخرى حديثة تفاقمت حدتها في السنوات الأخيرة. وهنا يشير الكاتب إلى الأضرار البيئية الكبرى التي تهدد الأراضي الزراعية في البلدان الفقيرة وتؤثر بالأساس على الفئات الهشة في المجتمع مثل المزارعين. لذا لا يمكن، حسب المؤلف، استحداث بيئة محفزة للتنمية المستدامة دون مراعاة قضايا البيئة والحفاظ على مصادر المياه والغابات. بيد أن الكاتب وهو يعرض المشاكل والصعوبات ويحذر من تراجع مساحة الأراضي المزروعة نتيجة شح المياه وهجرة المزارعين إلى المدن، يبتعد عن الخطاب المتشائم، ويفتح المجال أمام الحلول. فمهما افتقرت السياسات الاقتصادية للدول للحكمة والتدبير الجيد، يبقى من الممكن التعامل مع الفقر والتغير المناخي بفاعلية لو توفرت الإرادة السياسية لدى الدول النامية وقُدمت لهم مساعدات من قبل البلدان الأكثر غنى. وفي هذا السياق يركز الكاتب على التكنولوجيا والعلم كسبيل للخروج من براثن الفقر الذي بات يهدد أمن العديد من المجتمعات، لاسيما في ظل ارتفاع أسعار الغذاء الحالية وما قد يؤدي إليه من أزمة حقيقية على الصعيد العالمي. ومن الأمثلة التي يسوقها "ساكس" إدخال تعديلات على أنظمة الري التي من شأنها ترشيد استهلاك المياه من جهة، وتحسين المردود الفلاحي من جهة أخرى، فضلاً عن استخدام تقنيات الهندسة الوراثية لتطوير محاصيل أكثر مقاومَةً للجفاف والظروف المناخية القاسية. لكن اهتمام الكاتب بالتفاصيل وما يسميه بالحلول الموضعية التي تتفادى الأنساق الكبرى للاقتصاديين المتلفعة برداء أيديولوجي، لا يمنعه في بعض أجزاء الكتاب من الإقرار بضرورة وضع سياسات شاملة لمساعدة الدول على تحقيق تنمية مستدامة تقضي على الفقر ولا تضر بالبيئة. ولعل المثال الأوضح الذي يشير إليه الكاتب ويدلل بوضوح على انتقاله من السياسات الموضعية إلى السياسات الشاملة، هو برنامج "قرى الألفية" الذي تشرف عليه منظمة الأمم المتحدة في بعض البلدان الأفريقية بتعاون مع منظمات غير حكومية. ويهدف هذا البرنامج الذي يمتد خمس سنوات إلى تخصيص مبلغ 120 دولارا لكل قروي من أجل تحسين المردود الزراعي والسيطرة على الأمراض الفتاكة، مثل الملاريا والإيدز، فضلاً عن بناء المدارس والمستشفيات. وبالطبع لن يكون بمقدور الدول الفقيرة في أفريقيا إنجاز هذا البرنامج أو مشاريع أخرى لتكريس التنمية المستدامة دون تدخل المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي وبرنامج الغذاء العالمي، وهو ما يوقع الكاتب في تناقض بين طرحه الداعي للاهتمام بالقضايا الصغرى والتعامل مع كل حالة على حدة، وبين طرحه الذي يستدعي التدخل الدولي. والواقع أن تدخل مؤسسات عالمية تلعب فيها الدول الكبرى الغنية دور الممول، لن يمر دون ضغوط سياسية واعتبارات أيديولوجية. والسبب في ذلك يرجع ربما إلى النظرة التي يتبناها الكاتب حول التنمية باعتبارها متعددة الجوانب والأبعاد، حيث لا يمكن القضاء على الفقر دون توسيع المساحات المزروعة في البلدان الفقيرة، وهذا الهدف لن يتحقق بدوره في ظل التغيرات المناخية الكاسحة التي تهدد المحاصيل الزراعية. فتشابك عملية التنمية وتداخل أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية يستدعي تضافر الجهود الدولية وتدخل المؤسسات العالمية. ورغم الطابع الاقتصادي الصرف الذي أراده "ساكس" لكتابه وميله أحياناً إلى الجانب الاجتماعي في التنمية من خلال دعوته إلى توزيع الثروة على المجتمع ووصولها إلى الطبقات الفقيرة، فإنه في الأخير لا مناص من بعض السياسة. فقد كان الكاتب صريحاً في انتقاده لسياسة بوش الاقتصادية القائمة على تصور ليبرالي متطرف انتهى بأزمة مصرفية خانقة تهدد الاقتصاد الأميركي بمرحلة ركود طويلة ستكون لها تداعيات ملموسة على الاقتصاد العالمي، وبالأخص اقتصاديات الدول الفقيرة. وفي هذا الإطار يقترح الكاتب مجموعة من الخطوات التي يتعين على الولايات المتحدة اتخاذها لتغيير سياستها الأمنية حتى تصبح ملائمة لمتطلبات القرن الحادي والعشرين؛ من أهمها التخلي عن السياسة الأحادية واحترام القانون الدولي، والتقليص من الإنفاق العسكري لصالح التنمية، ومعالجة المشاكل الديموغرافية والبيئية، فضلاً عن تسوية الصراع في الشرق الأوسط، وخلق بيئة دولية تشجع على التنمية المستدامة. زهير الكساب ـــــــــــــــ الكتاب: الثروة المشتركة: الاقتصاد في عالم مزدحم المؤلف: جيفري ساكس الناشر: منشورات بينجوين تاريخ النشر: 2008