من بين كافة مخططي واستراتيجيي إدارة بوش، ليس هناك من هو أكثر إثارة للجدل والخلاف من "دوجلاس فيث"، كبير استراتيجيي سياسات وزارة الدفاع في عهد "دونالد رامسفيلد". وقد ساعدته خبرته السابقة التي تزيد على ربع قرن في مجال تحليل السياسات، لتقلد ذلك المنصب القيادي والعمل جنباً إلى جنب مع كبار "صقور" البنتاجون؛ مثل "رامسفيلد" و"بول وولفوفيتز"، إلى جانب عمله مع كل من "كولن باول" و"كوندوليزا رايس" حين كانت مستشارة الأمن القومي، ونائب الرئيس "ديك تشيني"، وصولاً إلى عمله مع الرئيس جورج بوش نفسه. والخيط الذي جمع بينه وهؤلاء هو تحديد استراتيجية أميركا واستجابتها لهجمات 11 سبتمبر. لكن وبما عرف عن إدارة بوش من تقديم للالتزام السياسي والأيديولوجي على الخبرة والكفاءة المهنية، فالمرجح أن لصعود "فيث" إلى ذلك المنصب، صلة بكونه أحد مؤسسي تيار "المحافظين الجدد"، ومهندسي الاستراتيجية العدوانية التي اتبعتها الإدارة فيما بعد الهجمات. والقيمة الرئيسية لمذكرات "فيث" المنشورة هنا في هذا الكتاب، أنها تحوي خفايا الحوارات التي كانت تدور خلف أبواب وزارة الدفاع المغلقة، حول الخطط والاستراتيجيات السابقة لإعلان الحرب على الإرهاب، وهو القرار الأكثر إثارة للجدل في تاريخ السياسات الأميركية الحديثة. وقد اعتمدت مادة الكتاب على حزمة من الوثائق ومحاضر الاجتماعات الخاصة بوزارة الدفاع حينها، إلى جانب اعتمادها على الذاكرة الحية للمؤلف، بصفته أحد أهم المشاركين في وضع الاستراتيجيات والخطط المذكورة. وبحكم الأسلوب السردي القصصي الذي انتهجه المؤلف في كتابة هذه المذكرات -دون نفي طابع التحليل والتوثيق عنه- فقد تمكن من خلق أجواء تعطي القارئ شعوراً بحضوره الافتراضي لتلك الاجتماعات والحوارات، بسبب السرد التفصيلي لما دار فيها. وإلى جانب المحتوى، فقد كشفت بنية السرد نفسها عن الكيفية التي تتخذ بها القرارات وتصاغ بها الاستراتيجيات والخطط في وزارة الدفاع، تحت قيادة رامسفيلد ومجموعة صقور المحافظين الجدد المتحلقين حوله. وباستثناء مشروعية شن الحرب على أفغانستان -بسبب إيوائها وتحالف نظامها السابق مع تنظيم "القاعدة"- فقد ثارت خلافات حادة بين وزارة الخارجية أيام قيادة باول لها، ووكالة المخابرات المركزية من جانب، و"مكتب الخطط الخاصة" الذي كان يتولى إدارته "فيث" بوزارة الدفاع في الجانب الآخر. واُتهم هذا المكتب بالذات بأنه المسؤول عن الترويج لما وصف بـ"بضاعة الخوف" حينها... وهو الترويج الذي نشأ عنه في الأصل قرار غزو العراق. وكانت التحفظات كثيرة حول الحماس الزائد لبعض صقور الإدارة لمواجهة ما أسموه بإرهاب الدولة، سعياً منهم لتوفير المسوغات اللازمة لغزو العراق -على خلفية مزاعم تطويره لأسلحة الدمار الشامل، وكذلك ارتباطه المزعوم بتنظيم "القاعدة"- على أمل توسيع نطاق تلك الحرب لتشمل كلاً من سوريا وإيران فيما لو واتت الظروف. يذكر أن وزير الخارجية السابق كولن باول، كان قد وصف "مكتب الخطط الخاصة" الذي يديره دوجلاس فيث، بأنه نسخة أميركية من جهاز "الجستابو" النازي، بسبب انفلاته عن أي رقابة أو سلطة تشريعية أو تنفيذية مقيدة لنشاطه، وقال عنه باول إنه كان عبارة عن وزارة قائمة بذاتها داخل وزارة الدفاع. يذكر أن صحيفة "واشنطن بوست" كانت قد نشرت عرضاً للكتاب قبيل صدوره في شهر أبريل الجاري، جاء فيه تعليق للكاتبين "توماس إي. ريكس" و"كارن دي يونج"، وصفاه فيه بأنه مغرق في الانتقادات الحادة الموجهة إلى كل من باول ووكالة المخابرات المركزية، إلى جانب سلطة التحالف المؤقتة في العراق بقيادة "بول بريمر". والملاحظ في تلك الانتقادات أنها لم تكن تدور حول مبدأ الحرب على الإرهاب بحد ذاته، ولا حول كيفية إدارتها، ولا حول ما ارتبط بها من ممارسات ألحقت ضرراً بالغاً بسمعة الولايات المتحدة وصورتها، وإنما كان محورها الرئيسي أولئك الذين تشككوا في دوافع إعلان الحرب ومبرراتها. فلم تعد خافية على أحد اليوم سخرية تحوير المعلومات الاستخباراتية الخاصة بأسلحة الدمار العراقية، ولا فبركة الارتباط المتوهم بين صدام حسين و"القاعدة". وقد كشفت إشادة رامسفيلد بالكتاب ومؤلفه -إذ وصفه بأنه من أندر المواهب الإدارية وأكثرها ثقافة بين كافة المسؤولين الحكوميين الذين عمل معهم- مدى "أصالة" انحياز "فيث" لاستراتيجية إعلان الحرب، ولأيديولوجية صقور إدارة بوش عموماً، رغم وصف البعض للكتاب بالموضوعية والتوازن في الطرح والتحليل. غير أن ذلك الانحياز لا ينفي عن "فيث" انتقاده لما وصفه بالخطأ الجوهري في الحرب على العراق: إدارة عملية التحول السياسي في مرحلة ما بعد الحرب. وبحسب رأيه فقد أخطأت الإدارة خطأ فادحاً بتعويلها على المعلومات الاستخباراتية الخاصة بأسلحة الدمار الشامل. والخطأ ليس في ثبوت عدم توفر تلك الأسلحة لاحقاً فحسب، بل في الاستغراق وإهدار الجهد في البحث عن معلومات سرية حول مدى الخطر الأمني الذي كان يمثله صدام حسين. ومن المفارقات العجيبة أن من بين ما أخذه "فيث" على صدام، تجاهله لقرارات الأمم المتحدة والشرعية الدولية فيما يتصل بالكف عن برامج تطوير أسلحة الدمار الشامل. والسؤال: هل اتسم الغزو الذي هندسه "فيث" للعراق بالشرعية الدولية والأخلاقية هو الآخر؟ عبدالجبار عبدالله ــــــــــــــــ الكتاب: الحرب والقرار... خفايا البنتاجون قبيل إعلان الحرب على الإرهاب المؤلف: دوجلاس فيث الناشر: دار "هاربر كولينز" للطباعة والنشر تاريخ النشر: 2008