بعد أشهر قليلة على انعقاد مؤتمر أنابوليس الذي أعاد إطلاق "عملية السلام" أعلنت إسرائيل خططاً لبناء مستوطنات جديدة في الضفة الغربية. وقد أثارت الخطوة الإسرائيلية انتقاد الأمين العام للأمم المتحدة "بان كي مون" الذي اعتبر قرار بناء المزيد من المستوطنات متعارضاً مع الالتزامات الإسرائيلية ضمن "خريطة الطريق" واستحقاقات عملية السلام في الشرق الأوسط. لكن إدارة الرئيس بوش رفضت كعادتها التنديد بالقرار الإسرائيلي واكتفت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس بالقول إنه "من المهم بذل كافة الجهود لدفع عجلة السلام"، أما الرئيس بوش فقد امتنع عن انتقاد إسرائيل قائلاً إن التزامات الطرفين كما تنص عليها خريطة الطريق "واضحة للجميع". وفي هذه الأثناء ظلت إسرائيل تكثف أنشطتها الاستيطانية، بحيث سجلت المنظمة الإسرائيلية، "السلام الآن"، حقيقة أنه "منذ قمة أنابوليس شهدت خطط البناء في القدس الشرقية قفزة نوعية، حيث قدمت عطاءات لتشييد 750 وحدة سكنية على الأقل في القدس الشرقية بين ديسمبر 2007 ومارس 2008، بينما لم تتجاوز العطاءات من العام 2007 وحتى وقت انعقاد مؤتمر أنابوليس 46 وحدة سكنية". وقد لاحظ "هاجيت أوفران" من منظمة "السلام الآن" الإسرائيلية: "أن الدولة العبرية ترتكب الخطأ ذاته الذي وقعت فيه منذ اتفاق أسلو، وهو الانخراط في بناء المزيد من المستوطنات دون أن تدرك أنها تبعث برسالة إلى الفلسطينيين تقول إن إسرائيل لا ترغب في السلام حقاً". واللافت أن الصفعة الأخرى لعملية "التسوية" هي الاستمرار في بناء المستوطنات، إلا أن ذلك لم يحل دون الاستمرار في الدفع باتجاه "عملية السلام"، وهذا بالذات ما يضفي على تلك العملية المزعومة نوعاً من الغموض والالتباس. فقد أعطت عملية السلام، بهذا المعنى، للمحتل الحق في اختيار شريك المفاوضات، واعتبار خريطة الطريق أساس المفاوضات، على رغم أن تل أبيب لم تتوقف عن خرق بنودها، كما رسخت الفوارق الكبيرة بين الأطراف المتفاوضة، ومع ذلك مازال يحلو للبعض أن يطلق على ما يجري تسمية "عملية السلام". وفي الوقت الذي كان فيه قادة إسرائيل يعلنون عن خططهم لبناء "المئات من المنازل في الأراضي المحتلة التي يعتبرونها جزءاً من القدس"، كانت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس قد أنهت لتوِّها زيارة استمرت ثلاثة أيام إلى المنطقة وقالت إن "السلام يسير في الاتجاه الصحيح". والواقع أنه كان بالفعل "يسير في الاتجاه الصحيح" بالنسبة لإسرائيل، بمعنى الإمعان في المزيد من مصادرة الأراضي، والمزيد من بناء المستوطنات على الأراضي الفلسطينية بهدف تمكين المحتل في النهاية من فرض شروطه على الضحية التي لا حول لها ولا قوة. وربما كان هذا الغموض الذي يكتنف "عملية السلام" هو ما دفع إلى اختيار شريك فلسطيني في المفاوضات يقبل بلعبة السلام حتى ولو كان عاجزاً ولا يفهم غموضها المُستحكم. أما الطرف الذي انتخب بطريقة ديمقراطية من قبل أغلبية الشعب الفلسطيني، ويفهم غموض وتعقيدات "عملية السلام" على حقيقتها، فقد همش وشوهت صورته وقاطعته إسرائيل والولايات المتحدة. وهذا ما يفسر الصدمة والذهول المتكررين للقيادة الفلسطينية إزاء العنف الإسرائيلي والعقاب الجماعي الذي تنزله بالفلسطينيين، كما يفسر أيضاً الغضب المتكرر والعبارات النمطية نفسها المسكوكة للاحتجاج على الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية. والواقع أن القيادة الفلسطينية الحالية كان عليها أن تفهم الغموض الذي يلف "عملية السلام" منذ مشاركتها في قمة "أنابوليس" التي قامت أساساً على خطة خريطة الطريق، وهي التي رفضتها إسرائيل بموافقة من حليفتها الولايات المتحدة. فخريطة الطريق تدعو إلى حظر التحركات الأحادية التي تضر بالمفاوضات بين الطرفين، لكن "شارون" الذي أبدى 14 تحفظاً على الخريطة كان أول من انتهكها بخطواته الأحادية وغير المنسقة مع الفلسطينيين، حيث خطط لعملية الانسحاب الأحادي من قطاع غزة دون اتفاق مع السلطة الفلسطينية. وفي البداية عارضت واشنطن الخطوة، لكن إدارة الرئيس بوش سرعان ما وافقت على خطة "شارون" فيما سمته نيويورك تايمز "بالتغيير الجوهري في سياسة الإدارة الأميركية تجاه الشرق الأوسط"! وبالطبع لم نكن في حاجة إلى تخمين الأسباب وراء خطة الانسحاب تلك، حيث تولى أحد كبار مستشاري "شارون" وهو "دوف ويسجلاس" توضيح الدوافع الحقيقية عندما قال لصحيفة "هآرتس" الإسرائيلية: "إن الهدف الحقيقي من خطة الانسحاب من غزة هو تجميد العملية السياسية، وعندما تجمد تلك العملية فإنك تمنع قيام دولة فلسطينية، وتحول دون مناقشة قضايا اللاجئين والقدس والحدود". وفي ردهم على الخطط الأخيرة لتكثيف النشاط الاستيطاني في الضفة الغربية تذرع المسؤولون الإسرائيليون بموافقة واشنطن، مشيرين إلى الرسالة التي بعثها الرئيس بوش في عام 2004 لشارون ووعده فيها بالاحتفاظ بالكتل الاستيطانية الكبرى التي ستعيق العودة إلى حدود 1967. وهو التوجه الذي أكده مستشار شارون نفسه عندما قال: "بالنظر إلى الكتل الاستيطانية الكبرى فإنه بفضل خطة الانسحاب الأحادي من غزة حصلنا على أول تعهد أميركي يسمح لإسرائيل بالاحتفاظ بتلك الكتل". وكان واضحاً دعم بوش للاستيطان الإسرائيلي، على رغم تعارضه الصارخ مع القانون الدولي ومع مقتضيات خريطة الطريق نفسها، في "أنابوليس" عندما دعا إلى تفكيك "البنى التحتية للإرهاب" و"البؤر الاستيطانية غير الشرعية". وهذه الدعوة تتفق مع الخطاب الإسرائيلي الذي يستثني الكتل الاستيطانية الكبرى ويعتبرها كاملة الشرعية. وهنا نفهم لماذا قالت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس إن "عميلة السلام" تسير في الاتجاه الصحيح، لأن ذلك لا يعني سوى الاستمرار في الاستيطان الذي فرضه منطق القوة والانتصار في الحرب، ومواصلة تعزيز قبضة إسرائيل وإخضاعها للفلسطينيين.