المستجدات في العلاقات الاقتصادية الدولية والتنافس على الموارد المتناقصة، وبالأخص موارد الطاقة الناضبة تفرض اصطفافاً جديداً للقوى العالمية وللتوجهات الاستثمارية وتوزيعها الجغرافي وفقاً للمصالح الاستراتيجية للبلدان المصدرة والمستقبلة للاستثمارات. وأكثر ما يثير قلق الكثير من البلدان ضمن هذه المستجدات هو الارتفاع الكبير في أسعار الأغذية والنقص المتزايد في الأسواق العالمية للسلع الغذائية الرئيسية، والذي دفع ببعض البلدان للبحث عن مصادر مضمونة لوارداتها، وبالأخص بعد أن أوقفت دول مثل مصر والهند صادراتها من الأرز لتلبية احتياجاتها المحلية، مما أدى إلى تضاعف الأسعار في الأسواق العالمية. وضمن هذه التوجهات الاستراتيجية أعلنت دولة الإمارات وقطر عن زيادة استثماراتهما في القطاع الزراعي والحيواني في البلدان العربية التي تتوفر فيها إمكانية تنمية هذا القطاع الحيوي، وبشكل خاص السودان. لقد استثمرت دول مجلس التعاون في الاقتصاديات العربية والنامية منذ عقد السبعينيات من القرن الماضي، حيث تعمل حالياً وبنجاح العديد من الصناعات ومؤسسات الإنتاج الزراعي والثروة الحيوانية، إلا أن هذه المشاريع ظلت متواضعة لأسباب موضوعية عديدة. وأهم هذه الأسباب يكمن في نقص التشريعات والقوانين الضامنة للاستثمار في البلدان العربية والنامية المستقبلة للاستثمارات الخليجية، فالقوانين السارية حالياً لا توفر ضمانات كافية للاستثمارات الأجنبية، يضاف إليها عدم الاستقرار والنقص الكبير في البنية الأساسية التي تساهم في انسياب انتقال السلع والخدمات داخل أسواق هذه البلدان وخارجها. لقد بعثت الإمارات ودول المجلس بإشارة قوية للبلدان الزراعية العربية والنامية، وذلك انطلاقاً من مصالح استراتيجية متبادلة يتم من خلالها تطوير قطاع الزراعة والثروة الحيوانية في هذه البلدان باستثمارات خليجية، على أن تضمن بلدان الخليج إمدادات مستقبلية من احتياجاتها الغذائية الأساسية، كما أدرج هذا الموضوع جزئياً ضمن منتدى الهند والعالم العربي والذي عقد في الهند بداية الأسبوع الجاري. ومثل هذا التوجه ينمُّ عن فكر منفتح وسيؤدي إلى المساهمة في حل مشكلة البطالة المتفاقمة في البلدان النامية وإلى استغلال الأراضي الزراعية الشاسعة الصالحة للزراعة، ليس في البلدان العربية فحسب، وإنما في البلدان الآسيوية والأفريقية التي هي بحاجة ماسة لمثل هذه الاستثمارات. إن أزمة الغذاء العالمية يمكن أن تتفاقم، كما أشار إلى ذلك صندوق النقد الدولي، حيث يجري الحديث عن جياع جدد إضافة إلى القدماء منهم، يترافق ذلك مع نقص في مياه الشرب النقية، وبالأخص في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. والفرصة التي تتيحها دولة الإمارات ودول مجلس التعاون مثالية وذات آفاق تنموية مهمة للبلدان النامية، كما أنها مهمة لدول المجلس، وكما يقال، فإن اليد الواحدة لا تصفِّق. ماذا يعني ذلك؟ الاستثمارات الخليجية للقطاعين الحكومي والخاص والمعززة بارتفاع أسعار النفط وعائداته الضخمة جاهزة لمثل هذا العمل، إلا أن ذلك يتطلب من البلدان العربية والنامية في آسيا وأفريقيا استكمال الشق الثاني لإنجاح مثل هذا التوجه الاستراتيجي للطرفين. وفي مقدمة القضايا الواجب استكمالها في البلدان النامية ضرورة الإسراع في سن التشريعات والقوانين الضامنة للاستثمارات وتطوير الجهاز القضائي والأنظمة الإدارية البيروقراطية الطاردة للاستثمارات الأجنبية والالتزام بالشفافية. وإلى جانب ذلك لابد من تطوير البنية الأساسية التي بدونها لا يمكن للاستثمارات الأجنبية أن تنمو وتتضاعف، فشبكة الطرق والمواصلات والتزود بالطاقة الكهربائية وخدمات مرافق المطارات والموانئ، جميعها تساهم في تسهيل عملية الاستيراد والتصدير، وهي بحاجة للتحديث والتطوير، حيث يمكن في هذا الجانب الاستفادة من التسهيلات التمويلية التي تقدمها صناديق التنمية، كصندوق أبوظبي للإنماء وبنك التنمية الإسلامي والصندوق الكويتي للتنمية وصندوق الأوبك، وهي مؤسسات لعبت دوراً كبيراً في تطوير هذه المرافق في العقود الثلاثة الماضية. عندها فقط يمكن لهذا التوجه أن ينجح ويحقق مكاسب كبيرة، يأتي في مقدمتها توفير الأمن الغذائي للبلدان المصدرة لرأس المال وتطوير الاقتصاديات المستقبلة له، مما يتناسب وطبيعة العلاقات الاقتصادية المستجدة والمعقدة للغاية.