انعقد في دمشق بين يومي 15 و20 من هذا الشهر الرابع مؤتمر حمل العنوان "تجديد الفكر القومي والمصير العربي"، وشارك فيه جمع من الباحثين والكُتاب العرب. وقد جاء هذا المؤتمر في سياق احتفالية "دمشق عاصمة للثقافة العربية". وباعتبار ما، جاء عقد هذا المؤتمر بمثابة إقرار بإشكالية الفكر القومي المزمنة. ويجدر التنبيه إلى أن المعْنِي بالفكر القومي هنا "العربي"، وليس ذلك الذي يتجلى بـ"السوري الاجتماعي" أو بـ"الفرعوني" أو بـ"الرافدي الأشوري، الكلداني"...إلخ. ومن شأن هذا أن يضع يدنا، خصوصاً، على مثل التجربة التوحيدية بين مصر وسوريا عام 1958، بوصفها نموذجاً درْسياً لما نحن بصدده. فالفكر القومي العربي إذ ظهرت طلائعه الأولى المنظمة في منتصف القرن العشرين، فإنه ما فتئ أن واجه الحركة السياسية والأيديولوجية في العراق وسوريا، خصوصاً، بعين الرّيبة، مع الإشارة إلى أن نشأته امتلكت، كغيرها مما يتصل بأحزاب وحركات أيديولوجية أخرى، كامل الشرعية التاريخية، خصوصاً أنها جاءت في مرحلة انتقالية معقدة، في سوريا، من العهد الفرنسي الانتدابي، الاستعماري إلى عهد الاستقلال الوطني وما طرحه من استحقاقات، ثم ما رافقه من انقلابات عسكرية وصعوبات اقتصادية تنموية وأخرى تعليمية وقضائية تنظيمية مؤسساتية وغيرها. وكان ثمة فرصة ثمينة لتصليب تجربة الاستقلال الوطني وتعميقها في إطار تعددية حزبية وسياسية وأيديولوجية وغيرها مما يتعلق بالمجتمع المدني وبالموقف من المجتمع الأهلي. لقد كان مشروعاً سياسياً برلمانياً، مفتوحاً على الجميع، ولكن ذلك جعل قوى سياسية وأيديولوجية أو أخرى تستاء منه، وتبحث عن حوافز لها في مصر عبدالناصر، في حينه؛ مِما جعل بعض هؤلاء -ومنهم أطراف قومية عربية- يتعجّلون القيام بتحقيق كيان موحّد مع مصر بعجره وبجره، بحيث قاد ذلك إلى محاولة اجتثاث مَنْ رأى غير ذلك. وبكيفية عامة، يمكن القول بأن الفكر القومي العربي منذ نشأته النظرية الأولى وجد صعوبات أولية عميقة أمام ضبط بنيته النظرية الأيديولوجية، وموقفه من الديمقراطية، والعلمانية، والقُطرية، والوحدة الاندماجية، والاتحاد الفيدرالي، ومن الأقليات الإثنية، والمجتمع المدني والمجتمع الأهلي، وغيره من المفاهيم النظرية والسياسية. قد عرَّف أحدُ مؤسِّسي الفكر القومي العربي، وهو ميشيل عفلق، القومية العربية بأنها "سُبحةْ إلهية"، تَهبُ الإنسان العربي الكرامة والشرف والتميز. وكان، بذلك، قد قطع مع التأسيس النظري العلمي للظاهرة المذكورة، حيث أدخلها عالمَ الميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة)، بعد أن أخرجها من العالم الإنساني الوضعي، الخاضع للتغير التاريخي. وسيدرك لاحقاً العرب ومعهم مُنظِّرو الفكر القومي أن تلك الظاهرة إن هي إلا حالة نشأت حديثاً في أوروبا في القرن التاسع عشر، مع عملية استكمال النظام البورجوازي الرأسمالي لوجوده السياسي، أي الدولة القانونية العصرية. وفي الحق، في هذا المُعطى يضع الباحث يده على أخطر تصور نظري وقع فيه روّاد الفكر القومي العربي، مِما جعل هؤلاء ينظرون إلى التوحيد القومي على أنه مجرد رغبة يطرحونها على الجماهير، دون التأسيس له في وقت ليس قصيراً، نظراً لوجود خصوصيات في كل قطر عربي لا يمكن تجاوزها بجرّة قلم وبين ليلة وأخرى. واقترن ذلك بفهم الروّاد المذكورين ومَنْ أتى بعدهم- خصوصاً الذين استلموا السلطة في سوريا والعراق ثم في الجمهورية العربية المتحدة- للديمقراطية على أنها تعبير بما سُمِّي تحت تأثير الاتحاد السوفييتي "الديمقراطية الشعبية". أما هذه الأخيرة، فتتكوّن من نِسب محدودة لممثِّلي الشعب في مجلس الشعب، من العمال إلى الفلاحين ومَن بينهم فئات اجتماعية كالنساء والطلاب والشباب. والأمر نفسه يظهر في النقابات والأجهزة المختلفة في المجتمع، أما قمة هذا البناء فيشغلها حزب يقوم بدور قائدٍ للدولة والمجتمع، مع الإيهام بوجود "جبهة تقدمية" لأحزاب أخرى، قد لا يملك رؤساؤها من ذلك شيئاً. وقد أثر ذلك على المسائل الأخرى، بحيث قد يرى المرء أن غياب الوضوح النظري والمؤسسة الديمقراطية أفضى إلى تفكيك بنى الداخل. ومن شأن هذا كله أن يضع أعيننا أمام مهمات كبرى على الفكر القومي العربي بأن ينجزها في عالم متلاطم من الصراعات في عصر العولمة الهائل. ومن ثم، فإن تجديد الفكر القومي يمر عبر إخضاعه هو و"التجارب القومية" لقراءة نقدية وديمقراطية صارمة، وإلا سيبقى "هذا" الفكر القومي عبئاً، بدلاً من أن يصبح مغيِّراً مُثوِّراً.