إليكم أعزائي القراء هذه الحكاية الصغيرة والمبنية على تجربة شخصية: قبل أسابيع كنتُ في إحدى الدول الآسيوية، وحجزي المؤكد للعودة من المفترض أن يكون بعد وصولي للبلد الآسيوي بأسبوع.. إلا ساعات قليلة، لكن ظرفاً طارئاً أجبرني على التبكير بالعودة، ولهذا لم أحصل على مقعد مناسب في الطائرة المسافرة للخليج، ومن هناك إلى بلدي إلا بصعوبة بالغة وفي درجة أقل من تذكرتي الأصلية. في البلد الآسيوي وعند نهاية الممر الموصل للطائرة المغادرة وقف مضيف مبتسم يمد يده لي إشارةً إلى رغبته في مساعدتي على حمل حقيبتي اليدوية الثقيلة، ولمساعدتي كذلك في إرشادي إلى حيث مقعدي في الدرجة الثانية، وقال لي المضيف وهو لا يزال يبتسم: إن مقعدك في الدرجة السياحية وستصل بسرعة إليه، سأرافقك إلى حيث هو وسأذلل أي مشكلة تواجهك في إدخال الحقيبة إلى حيث الدرج العلوي المخصص لها، على ألا تكون بعيدة عنك في حال احتجت شيئاً منها! شكرته جداً وأنا راضٍ عن طريقة بيعه لخدمته، وقطعت كل طول الطائرة وأنا أتحدث معه إلى حيث آخر صف من المقاعد بدون أن أشعر بأنني أخطأت عندما اخترت وقتاً مبكراً للعودة، أجبر بالتالي شركة طيراني المفضلة على إعطائي هذا المقعد القصي، ومعه هذا الكم من اللطف والاعتذار التلقائي. في أحد البلدان الخليجية كان لزاماً أن أغير طائرتي وأنا أعود لبلدي، وكانت أقرب رحلة بعد وصولي إلى حيث اتجاهي ستُقلع بعد ساعتين تقريباً وعبر ناقل جوي وطني خليجي. مضى كل شيء بسلاسة في المطار، إلى أن وصلت إلى آخر الممر الموصل لداخل الطائرة (الوطنية) ووجدت هناك مضيفاً مُنهكاً ينشر عدوى تبرمه على الجميع، وعندما أبرزت له كرت المقعد قال لي بالحرف الواحد: تحتاج إلى ليموزين لتصل إلى آخر الطائرة، إن مقعدك بعيد والأدراج المخصصة للحقائب مليئة (على الآخر) وبجانبك عائلة أكثرها من الأطفال المزعجين الذين لن يكفُّوا عن الصراخ حتى تُقلع طائرتنا المتأخرة بسبب عُطل فني، هذا إن كفوا أصلاً..! أصبت بالإحباط وانتابتني عاصفة مؤقتة من الكآبة مما رأيت وسمعت ولمست، ما الفرق بين تلك الشركة وهذه؟ وما الفرق بين المضيف ذاك وهذا؟ إنه فن بيع الخدمة، إنه علم العودة مرة أخرى للبائع وجودة مُنتجه مرات ومرات، من خلال مناهج الابتسامة والكلمة الودية والأريحية. ما نعلمه لأبنائنا وما يتعلمه البائعون للخدمات في بلداننا وما يمارسه الموظفون الرسميون في أقطارنا ليس فن البيع ولا كيفية إنجاز المهام بكفاءة، ما يمارسه ويقوم به الجميع ليس إلا فن الشراء، البائع للخدمة المحتكر يشتري من الناس قوة احتمالهم وصبرهم وقدرتهم على التكيف المطواع مع سوءات التعامل والخدمات وندرة الكفاءة البشرية المدربة، والمرشح للانتخابات يشتري أصوات الناخبين ببرنامج يعرف هو وهم أنه لن يطبق وأنه سيكون مُطبقاً.. حتى ساعة الاقتراع وإعلان النتائج! وأصحاب القرار يشترون الوقت لعل السنوات والأشهر والأسابيع والأيام تُغير ما لم يستطع البشر فعله! إن السيادة في منطقة أُطلق عليها بلدان الشرق الأوسط هي لقوى شراء ما لا يلزم وبيع ما لابد منه، لذا لم يكن مستغرباً ما حدث لي مع المضيف الوطني، ولا حال المضيف مع مرؤوسيه المباشرين، ولا الإدارة التنفيذية هذه مع الإدارة الوسطى، ولا الأخيرة مع الأجهزة الوظيفية العليا للشركة، هذا واقع ولا يجب أن ننفيه.. نعم يجب أن نغضب منه وأن نحاول أن نزيله، لكنه موجود على كل حال في انتظار تحقق الأماني والأحلام. هناك مدارس لفن البيع، ومن ذلك مدرسة الهندسة الإنسانية التي تؤكد -حسب كتاب العلاقات العامة كأداة للتنمية- على أن الإنسان كائن حي متغير من وقت لآخر، بل ومن لحظة لأخرى، ومن الضروري تقدير هذه الخاصية في محيطه الواسع والإيمان بمبدأ التفرد كقاعدة أساسية في العلاقات الإنسانية. وترى هذه المدرسة أيضاً أن الإنسان كائن حي يتميز عن سائر المخلوقات الأخرى بعنصر العقل، ومعنى هذا أن العمل الذي -لا- يؤديه الإنسان عن اقتناع و(فهم) يُلغي هذه الخاصية، ويهبط بالإنسان إلى مستوى الآلة الصماء الخرساء، ونتيجة لذلك فإن إنسانية العمل تقتضي وضع الإنسان في مرتبة أعلى من كافة عناصر الإنتاج الأخرى بحيث إذا تعارضت مصالح عنصر أو آخر مع مصلحة الإنسان فلابد من توفير عنصر الرعاية للإنسان حتى لو أدى ذلك إلى التضحية بمراتب العناصر الأخرى. في السنة الماضية وعلى مدى يومين كنتُ في بلدين عربيين، دخلتُ محلاً لبيع الملابس الداخلية في البلد الأول، كنت مضطراً للشراء مما يُعرض في هذا المتجر، وذلك لتأخر وصول حقيبتي من بلد المغادرة؛ عندما دخلت المحل وجدت الفوضى تضرب أطنابها في المسمى متجراً، كانت رائحة المأكولات والمشروبات والسجائر والعرق الإنساني والغبار تهاجم أصغر شعيرات الشم في أنفي، لهذا لم أستطع أن أمنع نفسي من شهيق عميق ينم عن الرائحة حال مغادرتي (للمخزن) بالرغم من جودة الصناعة ومتانتها؛ اليوم التالي وفي البلد العربي السياحي الثاني دخلت متجراً لبيع الهدايا، لم أكن مضطراً لشراء شيء من هناك.. فقط مجرد فرجة وتطفل، لكنني وبعد مضي نصف ساعة خرجت بالعديد من الهدايا للأحبة في وطني، دفعني لهذا حُسن تعامل البائع وابتسامته ورائحة الشموع والزهور التي كانت تملأ المكان، خرجتُ منشرحاً وقد دفعت ما لم أكن محتاجاً له. ما الذي كان يفعله البائع الأول ومقابله الثاني؟ الأول كان يشتري الوقت حتى يصل إلى آخر الشهر، حيث استلام الراتب؛ إنه يكره عمله، وربُّ عمله أهمل رعايته وتدريبه وإعطاءه إشارات الاستحسان أو الانزعاج المناسبة والملموسة، أما الثاني فكان يبيع الوهم وما لا حاجة مُلحة له وسلاحه في هذا ابتسامته وعطره.. وكلمات مثل "تكرم عينك"!