وردتني رسالة من أحد القراء يستفسر فيها عن مفردة "جيبول" التي وردت في مقال كتبته عن كوريا الجنوبية، فوجدت أنه من الأفضل الرد على القارئ الكريم من خلال مقال منشور كي تعم الفائدة. تُكتب كلمة "الجيبول" بالإنجليزية بطريقة تخدع القارئ هي:chaebol فيحسب أن نطقها هو "تشايبول"، فهي كلمة تطلق على جماعات "البزنس" الكبرى القوية التي تديرها وتسيطر عليها عائلات محلية نافذة. هذه الجماعات لعبت دوراً محورياً في بناء ودعم وتنمية الاقتصاد الكوري الجنوبي منذ عقد الستينات، أي منذ أن حل الرئيس الأسبق "بارك تشونغ هي" في السلطة بأجندة صارمة استهدفت تحويل البلاد من دولة زراعية بائسة إلى نمر صناعي قوي. ويُقال إن "بارك" استلهم فكرة تشجيع جماعات "البزنس" العائلية هذه ودمجها في عملية التنمية والتصنيع من نظام "زايباتسو"، الذي كان معمولاً به في اليابان في حقبة "ميجي"، غير أن المدقق سيلاحظ اختلافاً جوهرياً بين النظامين يتمثل في مصادر رؤوس الأموال، التي كانت في النظام الياباني متأتية من امتلاك وإدارة المصارف، فيما جاءت في النظام الكوري من المبالغ التي كانت الدولة تسمح للمصارف بإقراضها وضخها لتنفيذ أهداف وبرامج وطنية معينة، وذلك في ظل سياسة الرئيس "بارك"، التي أممت المصارف، ومنعت سيطرة جماعات "البزنس" العائلية النافذة عليها، لكن مع منح الأخيرة بعض الامتيازات مثل حصولها على قروض كبيرة. ومن هنا قيل مثلاً إن نمو هذه الجماعات لم يكن عائداً إلى نجاحات باهرة، وإنما إلى قدرتها على اقتراض أموال ضخمة. أما الدليل الذي يسوقه أصحاب هذا الرأي، فهو ما حدث أثناء الأزمة النقدية الآسيوية في التسعينات حينما انهارت المصارف، فتأثرت مراكز هذه الجماعات تأثراً ملحوظاً بل انهار نحو 11 "جيبول" في الفترة ما بين 1997 و1999، لاسيما تلك التي كانت قد استثمرت في السلع الموجهة إلى الجوار الآسيوي وأهملت السوق المحلي، وبالذات مجموعة "دايوو" التي انهارت تحت ضغط ديون وصلت إلى 80 بليون دولار في منتصف 1999. بعيداً عن دورها الاقتصادي، عملت هذه الجماعات منذ الثمانينات على إضافة دور سياسي لنفسها من خلال التنافس على المقاعد البرلمانية. وكانت البداية مع مجموعة "هونداي" للصناعات الثقيلة التي تنافست على مقاعد الجمعية الوطنية مستفيدة من نظام التمثيل النسبي. وبعد نجاح "هونداي" سارت مجموعات "البزنس" الكبرى الأخرى على خطاها. ولا يمكن الحديث عن هذه الجماعات ودورها في كوريا الجنوبية دون التوقف عند أشهرها وأهمها وأقدمها وهي، أولاً: "سامسونغ"، كانت شركة "سامسونغ" في وقت من الأوقات "الجيبول" الأكبر. وهي مؤسسة أعمال عائلية بناها "لي بيونغ تشول" ابن أحد ملاك الأراضي الكبار الذي ترعرع في ظل الاحتلال الياباني ودرس وفق المنهج الصيني التقليدي قبل أن ترسله عائلته إلى العاصمة سيئول ومن ثم إلى جامعة "واسيدا" العريقة في طوكيو. غير أن "لي" لم يحقق للعائلة حلمها، إذ قطع دراسته وعاد إلى كوريا لا يلوي على شيء لعدة سنوات. لكنه في سن السادسة والعشرين قرر أن يستثمر ما ورثه عن والده في شراء مطاحن للأرز في مسقط رأسه. في هذا المشروع خسر الرجل كثيراً، لكنه لم يحبط بدليل ذهابه فوراً إلى مدينة "تايغو" ليجرب حظه فيها من خلال شركة عقارية سماها "سامسونغ"، التي تعني باللغة الكورية: ثلاث نجوم. لكن الغزو الياباني لمنشوريا لم يترك فرصة لتلك الشركة العقارية أن تنجح، فأفلست سريعاً، غير أن "لي" المعروف بالإصرار سرعان ما أعاد تأسيسها، وهكذا لم تنته الحرب في عام 1945 إلا والشركة المذكورة تزدهر وتطرح ثماراً في صورة مجموعات أعمال ناجحة في مجالات التجارة والشحن والتأمين وتكرير السكر وصناعة النسيج والأصواف. وحينما قام الجنرال "بارك" بانقلابه العسكري في عام 1961، كان "لي" في اليابان، فقرر ألا يعود خوفاً من مساءلته باعتباره الرجل الأكثر ثراء في البلاد. لكن هذا لم يستمر طويلاً، إذ عاد إلى وطنه وعقد صفقة مع نظام "بارك" لتعتبر تلك الصفقة نموذجاً لعلاقات بقية جماعات "البزنس" مع السلطة، حيث سمح "بارك" لشركات الرجل أن تبقى في الساحة دون مضايقة، مقابل أن تقود مشاريع التنمية المطلوبة التي كان "بارك" قد أطلقها تحت شعاري "أثرِ بلادك، وقوِّ جيشك" و"الفولاذ قوة للأمة". ونظراً لنجاح "سامسونغ" وتطورها اقتصادياً وتكنولوجياً ومالياً، فقد استطاعت مع أواخر الستينات أن تدخل معترك صناعة الإلكترونيات وتركز عليه، الأمر الذي جعلها تنجح في منتصف السبعينات في تقليد أجهزة التلفاز الملونة الغربية واليابانية تقليداً رائعاً، ومن ثم تصنيعها وتصديرها إلى الخارج بأثمان بخسة. ثم كرت السبحة فنجحت "سامسونغ" في صنع مختلف الأجهزة الالكترونية على نفس المنوال. ثانياً: "هونداي"، تعتبر اليوم "الجيبول" الأكبر في كوريا الجنوبية أسسها "تشونغ جو يونغ"، الذي كان قد أتى إلى سيئول في سن المراهقة في الثلاثينات ليعمل أولاً على ظهر السفن ثم كصبي في مطاحن الأرز. ومع قدوم الأربعينات كان الصبي قد وفر ما مكنه من شراء ورشة لتصليح السيارات. وحينما وضعت الحرب أوزارها، طور "تشونغ" علاقات "البزنس" مع العسكريين الأميركيين وحصل منهم على عقود إنشاء وصيانة، ومثلها من حكومة الرئيس المنتخب "سيغمي ريهي". أما في الستينات، فقد لفت "تشونغ" أنظار رئيس البلاد الجنرال "بارك" بوطنيته وإخلاصه وحرصه على تنفيذ المشاريع الموكلة إليه قبل أوانها، مثلما فعل في مشروع لبناء جسر بطول 260 للربط ما بين سيئول وبوسان. غير أن هذا لم يكن وحده ما لفت نظر رئيس البلاد إليه، فإضافة إلى ما سبق كانت هناك سمعة "هونداي"، التي وصلت إلى تايلاند حيث كانت قد حصلت على عقد لبناء شبكات الطرق السريعة، وفيتنام حيث كانت تبني المطارات والمنشآت العسكرية للأميركيين، ناهيك عن تشابه "تشونغ" والرئيس "بارك" في الأفكار والتوجهات والآمال، مما جعلهما صديقين شخصيين حميمين. وهكذا فحينما قرر الرئيس "بارك" إدخال بلاده في مجال صناعة السفن الضخمة، لم يجد أمامه من يستعين به سوى "تشونغ" و"هونداي"، اللذين قاما فعلاً بالمهمة خير قيام، بدليل بناء أكبر سفينة في حينه بحمولة زادت على 10000 طن، والشروع في بناء أخرى لنقل النفط بحمولة 260 ألف طن، رغم عدم وجود خبرة سابقة، ورغم تشكيك الكثيرين في إمكانية النجاح، وهو ما دفع المصارف المحلية إلى التردد في منح "هونداي" قروضاً ضخمة، لتقوم الشركة بالاقتراض من المصارف البريطانية. وعليه، فإن الفضل في السمعة التي اكتسبتها كوريا الجنوبية في مجال بناء السفن وأحواضها، تعود ابتداء إلى شركة "هونداي"، التي دخلت الميدان في الوقت المناسب أي في السبعينات حينما كانت أسعار النفط الخام في تصاعد، وكان الطلب على ناقلات النفط العملاقة في ازدياد. لكن "هونداي" في الوقت نفسه، كانت تركز على أمر آخر هو كيفية الاستفادة القصوى من حركة الإنشاءات والتعمير الضخمة في الخليج والشرق الأوسط، التي أعقبت الطفرة النفطية، فتنافست على العقود وفازت بمعظمها، وتحديداً بعقود وصلت مبالغها الإجمالية إلى 1.4 بليون دولار.