ما من دولة عربية إلا والمثقفون يندبون حظ الثقافة والفكر والفنون فيها! إذ لم يعد الحال كما كان، بعد أن تغير الجمهور، وعمت وسائل الاتصال والإعلام، وانتشرت الملهيات والمرفهات، ولم تعد الثقافة من أولويات القطاع الخاص أو الحكومات. ندوة صحيفة "الجريدة" عن مستقبل الكويت، 2-3 مارس 2008، التي عرضنا للقارئ جوانب من نقاشاتها السياسية والاقتصادية، خصصت بعض جلساتها لأحوال الثقافة والفن في الكويت، ولم تنس حتى أوضاع الأندية الرياضية. وفي هذا المجال الأخير، أكد الرئيس السابق لاتحاد كرة القدم، الشيخ أحمد اليوسف، أن أندية التكتل والهيئة العامة للشباب والرياضة، "نصبت من نفسها سلطة رابعة، بإعاقة تطبيق القوانين المحلية". وأضاف أن الكويت شهدت نهضة رياضية ابتداءً من عام 1976 حتى عام 1982، "لأن الكل كان متكاتفاً ومتعاوناً، ثم بدأت الرياضة في الكويت تواجه المشكلات". أبرز نواحي الضعف حالياً، حسب "يوسف البيدان"، من مجلس إدارة "نادي التضامن"، "عدم الاهتمام الحكومي بالمجالات الرياضية"، و"عدم وجود وعي أو ثقافة رياضية لدى الحكومة أو مجلس الأمة أو الشارع". في المجال الثقافي، شارك الفنان والمخرج المسرحي فؤاد الشطي في ندوة "الجريدة"، فذكر أن الواقع الثقافي "مع الأسف سيئ جداً جداً". وألقى "الشطي" بالمسؤولية على أربعة أطراف: "مسؤولية حكومية"، لأن الحكومة هي الجهة الراعية لكل مجالات الحياة في الكويت. "مسؤولية مجلس الأمة"، "مسؤولية العاملين في الوسط الفني والثقافي"، الذين لا ينظمون جهدهم في هيئة تمثلهم، وأخيراً "السلطة الرابعة" أي الصحافة والمجلات المتخصصة، فهذه الصحف تستقطب، كما قال، أقلاماً غير متخصصة، بينما كان للنقاد في الماضي دور في ارتقاء الحركة النقدية إبان عصر التحديث والتنوير. ونوّه "الشطي" إلى أسماء بعض رواد النهضة الثقافية في البلاد، مثل عبدالعزيز حسين وأحمد مشاري العدواني وحمد الرحيب، كما كانت المدارس زاخرة بالأنشطة المدرسية. وقال: "لقد عاصرت بدء الحياة الديمقراطية منذ الستينات، وكان هناك في افتتاح كل دورة برلمانية فقرة طويلة عريضة تتحدث عن الحركة الثقافية والفنية، لقد اختفت من أحاديث القياديين، وأتحدى على الأقل 50 عضواً في المجلس جاؤوا بذكر الثقافة في خطاباتهم بالمجلس، هذا يدل على إهمال كامل متعمد عن ذكر مفردة الثقافة". وطالب "الشطي" الصحافة الفنية بأن تلتفت إلى من يكتب بها النقد الرصين، "لأن معظم من يشتغلون في هذا الحقل هم موظفون بالباطن في المؤسسات الفنية، أو يعملون ببرامج، في الإذاعة والتلفزيون". وثمّن دور الممثلات رائدات العصر الذهبي، وفي المقابل انتقد الوضع الحالي "حيث أصبح كل من لا مهنة له فناناً وكاتباً ومنتجاً ومخرجاً، تلمعُه الصحافة ليصبح مؤسسة ثقافية". وأشاد بالأيام الذهبية الخوالي للحركة المسرحية الكويتية، عندما كانت "ترضع من ثلاثة أثداء"، وزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة الإعلام ولاحقاً المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. وخاطب "الشطي" الجمهور عن الحريات في المجال المسرحي فقال: "هل تعلمون أن ما كان مسموحاً به في الستينات والسبعينات في التلفزيون يُجتزأ منه؟ لدي كتب لرفض عروض مسرحية لأسباب واهية، نحن ضد تجاوز الخطوط الحمراء، لكن في ظل تضييق الحريات لا يمكن للفن أن يتطور". أما كاتبة الدراما التلفزيونية، السيدة فجر السعيد، فأكدت بدورها غياب التشجيع الحكومي. وقالت الكل يشتغل بطاقته الفردية، وفوق هذا وزارة الإعلام تتدخل في شؤوننا، وتتفنن في إصدار القرارات والقوانين التي تقول لكل مبدع "اطلع من البلد إذا عندك إبداع". وعندما يأتي أي وزير إعلام "فأول شيء يفكرون به في مجلس الأمة كيفية استجوابه، فيحاول هو "تسكير" كل المنافذ". وأضافت أن مضايقة الإبداع الفني ليست مقتصرة على المجلس، "بل إن مسؤولينا لا يحبون الثقافة ولا الفن ولا الإبداع، فهم يرون أن الفن عيب في الظاهر، بينما في الباطن وخلف الكواليس يطلبون أشرطة الأعمال الفنية". الروائية والكاتبة الكويتية المعروفة، السيدة ليلى العثمان، شنت ما يمكن اعتباره هجوماً واسعاً على كل الجبهات ضد المسؤولين عن عرقلة الحياة الثقافية وتجميدها في البلاد. وقالت إن ثمة حرباً تُشن ضد الإبداع، حيث إن "المبدع بات مطارداً وصار تهريب الكتب في معرض الكتاب كتهريب المخدرات". الازدهار الثقافي في الكويت ما بين 1960-1980، "جاء نتيجة لأجواء الحرية السائدة آنذاك، ولاهتمام الدولة وتشجيعها المادي والمعنوي للفنون كافة، دون أن تترك الحبل على غاربه لسلطة الجماعات المتشددة.. فماذا عن اليوم"؟ وانتقلت "العثمان" بملاحظاتها إلى مجال التعليم: "قارنوا بين مناهج تدريس اللغة العربية بالأمس، حين كان الأدب يأخذ حيزه الكبير في المناهج وكانت المكتبة المدرسية واحدة من أهم الروافد التي خرّجت جيلاً قارئاً واعياً مثقفاً، ملماً بكل الثقافات. ماذا عن مناهجنا اليوم التي أقصيت عنها ينابيع الثقافة والأدب، وهُمش دور المكتبة المدرسية، فنشأت أجيال لا تقرأ، وإن قرأوا فلا تكون الثقافة والأدب من أولويات قراءاتهم، ماذا عن المسرح المدرسي الذي أفرز أكبر مجموعة من الفنانين الكبار رجالاً ونساء حظيتْ بالتشجيع من الأهل ومن المجتمع الذي لم يحرّم الفن ويحارب الفنانين؟ لقد قامت هيئة النهضة الفنية على أكتاف هؤلاء الفنانين والفنانات، فأين هو مسرحنا اليوم الذي كانت تلهب له أكف الجماهير بالتصفيق في كل المهرجانات المسرحية في الوطن العربي، وكان يحصد الجوائز الأولى؟ انظروا اليوم إلى حال اليأس بعد أن طالته عصا الرقابات المتشددة، حتى مباني المسارح تثير الأسف والشفقة. أين جامعاتنا التي كانت جامعة رائدة مفتوحة أبوابها للجنسين، كان الاختلاط فيها تحت نور الشمس ورعاية الدولة، ولم يأت من يحرّم الاختلاط ويلوح بالويل والثبور، وقد ساهم ذلك الاختلاط الصحي في أكبر قدر من الزيجات الناجحة حتى اليوم، أين هذه الجامعة الآن؟ لقد طالها سيف المشككين في أخلاق أبنائنا وبناتنا وفي عدم الثقة بوعيهم وقدرتهم على التعارف والتعايش المشترك، لقد جاء قانون المنع الصارم، ليفتح هوة الخوف والرهبة بين الجنسين، فنتج عن ذلك عزوف كثير من الشباب عن الزواج من بنات بلدهم الكويتيات الجميلات المتعلمات، واندفعوا إلى الزواج من شتى الجنسيات حتى ضاعت هوية الوجوه واللغة وأيضاً هوية الدين. ماذا عن معرض الكتاب الذي كان من أهم المعارض العربية؟ لقد تخلف سنة بعد أخرى بسبب هذه السلطات التي تتعدى على سلطة الدولة ولهذا امتنعت دور النشر الكبيرة عن المشاركة في معرض الكويت الدولي". واختتمت "ليلى العثمان" حديثها بالقول إننا اليوم في مأزق، وإنْ أردنا بإخلاص أن نخرج من هذا المأزق فعلينا ألا نكمن في الشقوق ونصمت، تاركين الساحة تعيث بها الأفكار الظلامية، علينا أن نقاوم هذه الأفكار خوفاً على هذا الوطن. ولو وقفنا وقفة تقييم من آراء الأديبة "ليلى العثمان" والكاتبة "فجر السعيد" والفنان المسرحي "ماجد الشطي"، لسلّمنا معهم بمسؤولية الدولة في الكويت وغيرها عن تراجع الثقافة كمّاً وكيفاً، ومسؤولية التزمت الديني في التضييق على الإبداع. ولكن العمل الأدبي الجيد والعطاء الثقافي والفني الأصيل، كما هو معروف، يشق دربه رغم الصعاب. والكثير من الكتب التاريخية والفكرية والروايات العظيمة ظهرت وسط ظلم الدكتاتوريات وظلام التزمت. كما أن معظم المبدعين في العالم لا يتوقعون شيئاً من الدولة، بل ربما لا توجد في العديد من الدول وزارات للثقافة والإعلام، أو مجالس وطنية للثقافة والفنون والآداب! باختصار، دعم الدولة إنْ وجد فذلك من حسن حظ المبدع، وخاصة إن كان دعماً بلا مقابل! ومعارضة قوى التزمت إن اشتدت كان من سوء حظه. ولكن لا هذا ولا تلك موانع حقيقية في وجه الثقافة الجيدة والإبداع الفني! فعلى الكتاب جميعاً رغم كل شيء أن يكتبوا، وعلى المبدعين، مهما اشتد الظلام والتزمت أن يبدعوا!