لم تعد خافية على أحد، بل أصبحت أمراً معلناً، تلك التحركات والمطالبات التي تقوم بها الحكومة الأميركية تجاه الاعتراف بالحكومة العراقية كنوع من المساندة لها، ومطالبة أميركا لحلفائها في المنطقة بإرسال سفرائهم لبغداد. لكن أكثر حلفاء أميركا قرباً في المنطقة -وهم دول الخليج- غير متحمسين للتقارب الدبلوماسي مع الحكومة العراقية بشكل عام، صحيح أن هناك تبايناتٍ في مواقف الحكومات الخليجية من الحكومة العراقية مثل البحرين التي أرسلت سفيراً لبغداد، ولكن الصحيح أيضاً أن عمومياتٍ تحكم هذه المواقف التي تشترك في التردد في التقارب مع الحكومة العراقية. ولهذا التردد عدة أسباب: منها أن الدول الخليجية -باستثناء الكويت لأسباب خارج هذا المقال- كانت ضد حرب إسقاط صدام حسين (على الأقل علناً)، ورأت أن ما تم وتبعاته هو مشكلة أميركية تتحملها أميركا من ألفها إلى يائها، وهناك من يردد من حلفاء أميركا في المنطقة، أننا لسنا تبعاً لكل ما تطالب به السياسة الأميركية في المنطقة التي لا تعير حلفاءها أذناً صاغية، وحين تتورط تطلب من حلفائها التورط معها. التردد في إرسال سفراء لبغداد نابع أيضاً من الهاجس الأمني والانفلات الذي يعيشه العراق، ولذلك الانفلات شواهد منها خطف وقتل السفير المصري ببغداد، واختطاف البحريني ونجاته بأعجوبة، وتفجير السفارة الأردنية، واختطاف دبلوماسيين إيرانيين، وبالتالي فإن إرسال سفراء خليجيين ستكون فيه مغامرة بحياة هؤلاء الدبلوماسيين كممثلين لحكوماتهم إلى حكومة لا تسيطر على بغداد -ناهيك عن باقي أجزاء البلاد. والأحداث الدامية التي جرت الثلاثاء الماضي من البصرة جنوباً وحتى الموصل شمالاً مروراً بكربلاء والفلوجة والرمادي دليل محزن على استمرار الانفلات الأمني. كما أن التردد الخليجي في "تدفئة" العلاقات مع الحكومة العراقية يأتي من أن الحكومة العراقية لا تمثل الأطياف العراقية كلها، وبالتالي فإن التواصل معها ودعمها يعد تدخلاً بين الأطراف العراقية المختلفة التي لا يشارك معظمها في الحكومة العراقية الحالية التي خرج أكثر من نصف وزرائها من تشكيلتها، وسوف يرى باقي الأطراف في دعم الحكومة العراقية انحيازاً لطرف دون آخر. من جانبها، فقد فشلت الحكومة العراقية بامتياز بأن تقنع جيرانها بأنها حكومة تمثل كل -أو على الأقل معظم- العراقيين، ولا زالت مجاميع عراقية -سُنية وشيعية- ترى في الحكومة العراقية الحالية حكومة منحازة طائفياً وحزبياً. الأحداث الدامية في جنوب البصرة خلال الأسابيع الماضية شاهد على عدم رضا أطراف شيعية مختلفة عن "شيعية" الحكومة الحالية. ويتردد في زوايا القرار الخليجي استياء من تردد حكومة المالكي الحالية في حسم مسألة عروبة العراق، بل إن الحديث عن التقسيم الفيدرالي على أسس طائفية يثير شكوكاً بأطماع وطموحات إيرانية، ويزعج المراقب الخليجي لتطورات المشهد العراقي، في وقت تتعزز فيه نظرة الخليجيين إلى أهمية الجنوب العراقي-العربي بالنسبة للعلاقات المستقبلية بين العراق وجيرانه العرب جنوباً. ففي الخليج يتشكل اليوم تيار عارم بين المثقفين والقريبين من متخذي القرار عموماً بأن الجنوب العراقي جزء أقرب إلى الخليج من أي جزء آخر خارج منطقة الخليج. ومن نافل القول إن الاستقرار العراقي لن يتحقق دون مساهمة الأطراف المحيطة به، ومعروف أن لكل طرف إقليمي أجندةً خاصةً في العراق، والخليجيون هم الأقل تدخلاً في الشأن العراقي، لكن نظرة خليجية تتعزز يوماً بعد يوم بأن أهل الخليج أولى بـ"التدخل" البنَّاء للمساهمة في استقرار العراق، ويلحظ المراقب أن التردد الخليجي يتلاشى شيئاً فشيئاً، لكنه لن يزول تماماً مع بقاء الهواجس التي هي في غالبها مشروعة، لكن زوال بعضها يتطلب المسارعة في المساهمة بإزالتها.