ها قد أصبحنا على مفترق طرق تغيير ثوري جذري في الطريقة التي تصمم بها المباني وتشيد، وهو تغيير من السعة والضخامة إلى درجة تتيح لنا للمرة الأولى، التصدي لثنائي تحديات أسعار الطاقة، وتأثير عامل الزمن الفعلي على التغير المناخي. ويعد قطاع المباني والإنشاءات، أكبر مستخدم في دول الاتحاد الأوروبي، حيث بلغت مساهمته في إجمالي الناتج المحلي نسبة 10 في المئة في عام 2003، بينما بلغت مساهمته في توفير الوظائف للعاملين نسبة 7 في المئة في كافة دول الاتحاد الأوروبي البالغ عددها خمس عشرة دولة حينئذ. وكما نعلم فإن المباني تعتبر مساهماً رئيسياً في ارتفاع درجات حرارة الأرض، لكونها تستهلك نسبة تتراوح بين 30-40 في المئة من كمية الطاقة المستهلكة عالمياً، بينما تصل نسبة انبعاثاتها من غاز ثاني أكسيد الكربون المسبب للإحماء الشامل، إلى المعدلات نفسها تقريباً. واليوم فقد أتاحت الطفرات التكنولوجية الجديدة التي تحققت في مجال الإنشاءات، فرصة لتصميم وتشييد طراز جديد من المباني القادرة على إنتاج طاقتها الخاصة بها من موارد الطاقة البديلة المحيطة بها، بما يسمح لنا بإعادة النظر في إنشاءات المستقبل باعتبارها "مصانع للطاقة". وستكون لهذه الطفرة نتائجها التجارية والاقتصادية الهائلة، فضلاً عن عمق تأثيرها المتوقع على قطاع العقارات، سواء كان في أوروبا أم العالم قاطبة. وبالنسبة لملاك البيوت وأصحاب الاستثمارات، فقد تحول ارتفاع أسعار الطاقة، ومن ثم تزايد الرغبة في ترشيدها، من مجرد اهتمام شكلي في السابق، إلى هم رئيسي ينشغل به هؤلاء. وإذا ما اتخذنا من ملاك البيوت مثالاً، نجد أن تكلفة خدمات الكهرباء قد بلغت سلفاً نسبة 15 في المئة من إجمالي التكلفة الإسكانية. وكما هو متوقع، فإن هذه النسب ستواصل ارتفاعها خلال الأشهر والسنوات القليلة المقبلة. واستشعاراً منها لآفاق هذا التحول الذي يواجه فيه ملاك المنازل ارتفاعاً تصاعدياً في أسعار الطاقة، إلى جانب تأثيرات عامل الزمن الفعلي على التغير المناخي، شرعت عدة بنوك مستثمرة في مجال الرهن العقاري، في تصميم برامج لـ"الرهن العقاري الأخضر"، حتى تؤمّن لها موطئ قدم في الطفرة العقارية الكبيرة المقبلة. وهاهي شبكات خدمات الطاقة، قد بدأت للتو في استغلال التكنولوجيا الذكية التي تمخضت عنها ثورة الإنترنت، باعتبارها أداة جديدة يمكن لهذه الشبكات الاستفادة من تقنيات توزيعها العالمي والسريع للمعلومات. ومن شأن هذا الاستغلال أن يمكن الملايين من البشر المنتشرين في شتى أنحاء المعمورة، من إنتاج طاقتهم البديلة الخاصة بهم، وتبادلها مع بعضهم البعض، بذات الطريقة التي يتبادلون بها المعرفة والمعلومات عبر شبكة الإنترنت. وهذه هي النقطة التي يتقدم فيها القطاع العقاري إلى الصفوف الأمامية من هذه الثورة التكنولوجية الجديدة. ولتسمحوا لي بشرح فكرتي هنا بشيء من التشبيه. فإذا ما قلت لأحدكم قبل 25 عاماً، أي في أيام ذروة الإرسال التلفزيوني المركزي، إنه سيكون في وسعه خلال أقل من عقد من الزمان، استخدام جهاز كمبيوتر صغير الحجم رخيص الثمن، لإرسال صور الفيديو والملفات الصوتية والنصوص وغيرها من جهازه ذاك، إلى ملايين البشر على امتداد العالم بأسره، وبقوة تفوق مؤسسات الإعلام العملاقة، لضحك علي وهزئ مني حينها. والحقيقة أننا نجحنا في ذلك بالفعل! والذي نحتاج إلى تخيله بعد 25 عاماً من الآن، هو تشييد ملايين المباني والمنازل والمكاتب والمراكز التجارية والمجمعات التكنولوجية، التي تشيد باعتبارها "مصانع للطاقة" بقدر ما هي "مستوطنات" صالحة لحياة البشر. والذي أعنيه هنا هو تشييد مبان قادرة على تجميع وتوليد خلايا طاقتها من مصادر الطاقة البديلة المتجددة المحيطة، مثل الشمس والرياح والمخلفات ونفايات الأشجار والغابات، ومن أمواج المحيطات ومد البحر، فضلاً عن المستودعات المائية والجيوحرارية. وعندها سيكون في وسع هذه المباني المستقبلية، توفير خلايا الطاقة الخاصة بها، إضافة إلى قدرتها على تبادل ما يفيض عن حاجتها من هذه الخلايا. وفي الواقع فإن جيلاً جديداً من هذه المباني التجارية والسكنية التي تؤدي وظيفة "مصانع الطاقة" قد بدأ إنشاؤه عملياً. فعلى سبيل المثال، عمدت شركة "فريتو-لاي" الأميركية إلى تحديث مصنع "كاسا جراند" التابع لها، بحيث يتم تشغيله بالكامل بطاقة المياه المعالجة وموارد الطاقة البديلة المتجددة. أما في فرنسا، فقد مضت شركة "بويجي" العقارية العملاقة بهذه الخطوة شوطاً أبعد من هذا، بتشييدها مجمعاً هائلاً من المكاتب التجارية الحديثة، في إحدى ضواحي العاصمة باريس، بحيث يتمكن من جمع وتوليد ما يكفيه، بل يفيض عن حاجته من خلايا الطاقة الشمسية. وفي إسبانيا يرمز "مجمع والكا التكنولوجي" في هويسكا، إلى نوع جديد من المجمعات التكنولوجية القادرة على إنتاج طاقتها البديلة المتجددة الكافية لعملياتها. ويجري حالياً إنشاء العشرات من مباني المكاتب التجارية في مجمع "والكا"، بينما تجري الاستعدادات لإنشاء 40 مجمعاً مكتبياً آخر. وتشمل موارد الطاقة المتجددة المستخدمة فيها، طاقة الرياح والطاقة المائية والشمسية. ومن بين الشركات التكنولوجية الكبرى التي يضمها هذا المجمع، مايكروسوفت وغيرها من شركات تكنولوجيا المعلومات الرائدة، إلى جانب بعض الشركات المستثمرة في مجال الطاقة المتجددة. نصل إلى السؤال المهم: ماذا تفعل المباني الجديدة المنتجة للطاقة بفائض إنتاجها هذا؟ والإجابة: يرسل الفائض إلى شبكة الكهرباء العامة. وعليه فإننا نتوقع في المستقبل أن يتمكن ملايين البشر من إنتاج وتبادل ما يحتاجونه من الطاقة في منازلهم ومكاتبهم ومصانعهم مع المستهلكين الآخرين، على المستوى القومي أو القاري، عبر شبكات واسعة وعالية الكفاءة في الاستجابة لهذا النمط الجديد من استهلاك الطاقة وتبادلها. والشاهد أن شركات تكنولوجيا المعلومات العملاقة، قد شرعت للتو في الدخول إلى سوق تكنولوجيا الطاقة الذكية هذه. وتعمل هذه الشركات حالياً جنباً إلى جنب شركات الخدمات الكهربائية، بحيث تساعدها على تحويل شبكات الطاقة الحالية، إلى شبكات بينية متداخلة فيما بينها، يستطيع بموجبها ملاك المباني الجديدة إنتاج الطاقة الخاصة بهم وتبادلها مع المباني الأخرى. وهذا هو ما تقوم به كل من شركة "سنتربوينت" في هيوستن، وشركتي "تكساس" و"إكسيل" في بولدر، وكذلك شركات "كلورادو" و"سيمبرا" و"ساوثرن كونإيدسون" في كاليفورنيا، خلال العام الحالي. وبفضل هذه الجهود، تمكنت شركات الطاقة هذه من توصيل آلاف المجمعات والمباني السكنية والتجارية مع بعضها البعض، على مستوى استهلاك الطاقة وتبادلها فيما بينها. وكما سبق القول، فإن من المتوقع أن تسهم البنوك المستثمرة في مجال الرهن العقاري، بدور بالغ الأهمية في النهضة العقارية الخضراء المرتقبة. والفكرة وراء برامج "الرهن العقاري الأخضر" هذه، هي أن توفير قروض مالية أكبر، أو خفض معدلات الفائدة على القروض القائمة، بغية تشجيع كفاءة استهلاك الطاقة وترشيدها، عن طريق العزل الحراري الجيد للمباني، أو نصب العاكسات الشمسية، وتركيب المضخات الجيوحرارية وغيرها، يعبر عن اتجاه إيجابي مستقبلي في الاستثمار المصرفي. بل إن ترشيد استهلاك الطاقة، يعني على مستوى الممارسة المصرفية كذلك، أنه سوف يكون في وسع المرهون له، توفير المزيد من الأرصدة المالية الكافية لسداد أقساط رهنه الشهري، مما يعني زيادة قدرة العميل على سداد ما عليه من التزامات مالية تجاه البنك. وفي حين لا تزال البنوك الأوروبية في مرحلة بدايات تمويل برامج الرهن العقاري الأخضر، يلاحظ أن البنوك الأميركية قد سبقتها كثيراً في هذا المجال. فعلى سبيل المثال، أضاف قسم الرهن العقاري التابع لـ"سيتي جروب" المصرفية، مبلغاً إضافياً بلغت قيمته 1000 دولار لتمويل كفاءة الطاقة لكل رهن مسجل لديها في عام 2007. كما وفر المبلغ نفسه "البنك الأميركي" سعياً منه لحفز كفاءة استهلاك الطاقة لكل مالك من ملاك البيوت الجديدة، بما يتماشى والمعايير الحكومية لاستهلاك الطاقة، التي حددها برنامج "Energy Star". هذا ومن قناعة البنوك المستثمرة في تمويل برامج الرهن الأخضر، أن قيمة إعادة بيع المباني الخضراء هذه ستواصل ارتفاعها خلال السنوات القليلة المقبلة، طالما أن المتوقع من المشترين المحتملين، أن يحسبوا جيداً تكلفة الطاقة، قبل إقدامهم على الشراء. وهكذا تسهم المباني الخضراء في الحد من خطر التغير المناخي ودرء كوارثه.