السياسة الحزبية أو الحزب السياسي نظرتان: نظرة ضيقة لا ترى أبعد من المصلحة الحزبية، ونظرة واسعة تضع المصلحة الحزبية كجزء من مصلحة الوطن. فإذا اتفقت المصلحتان فالحزب وطني. وإذا تعارضتا فإيثار المصلحة الوطنية على المصلحة الحزبية يجعل الحزب وطنياً، خسارته على الأمد القصير، ومكسب على الأمد الطويل. وإيثار المصلحة الحزبية على المصلحة الوطنية يجعل الوطن حزباً، وهو مكسب على الأمد القصير، وخسارة على الأمد الطويل. الهدف من السياسة الحزبية أو الحزب السياسي هو التنمية الشاملة للبلاد، والنهضة العامة للأمة، ودفعها نحو مزيد من الحرية والاستقلال، ونقلها من مرحلة تاريخية إلى مرحلة تاريخية أخرى. فالحزب ابن الوطن. ليس الهدف هو الوصول إلى السلطة. إذ يمكن الوصول إليها بالانقلاب العسكري أو بالجماعة السرية أو بالثورة الشعبية المسلحة. ويمكن للحزب بعد الوصول إلى السلطة عن طريق الانتخابات الحُرة أن يتحول إلى حزب متسلط كما قيل بعد نجاح "جبهة الإنقاذ" في الجزائر في الانتخابات البلدية إنها آخر الانتخابات مما أخذ مبرراً لانقلاب الجيش عليها، وإلغاء نتيجة الانتخابات، وحل الحزب. ثم وقعت البلاد في حرب أهلية مدمرة كلفتها أكثر من مئة ألف قتيل تضاف إلى المليون شهيد في حرب الاستقلال. وشتان ما بين القتل في سبيل الحزب، والشهادة في سبيل الوطن. لم يكن الأفغاني في السلطة بل عمل ضدها، وكان له أبلغ الأثر في الحياة السياسية والوطنية في جميع البلاد العربية والإسلامية. ورفض أن يتوّج ملكاً على السودان. فمكانه بين الناس ومع الشعب ضد الملوك الطغاة والفاسدين. وكان كثير من الأحزاب السياسية في السلطة ولم يترك أي أثر في البلاد، بل ترك أحياناً آثاراً مدمرة على الحياة السياسية والوطنية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية مثل الأحزاب الحاكمة في مصر وليبيا وتونس والجزائر والسودان وسوريا والعراق قبل الغزو، بقايا الحزب الواحد. ورضي خالد بن الوليد أن يحارب كجندي في سبيل الله بعد أن عزله عمر من قيادة الجيش لافتتان الجند به وعيَّن بدلاً منه أبا عبيدة بن الجراح. فالحرب في سبيل الوطن وليست في سبيل السلطة. ولا فرق في الشهادة بين قائد وجندي. يمكن أن يتم العمل الحزبي الوطني لتنمية البلاد خارج السلطة مثل المساهمة في القضاء على محو الأمية في المساجد تطوعاً دون أية تكلفة زائدة. فالمكان موجود وهي المساجد، والأساتذة موجودون وهم الأئمة، والتلاميذ موجودون وهم المصلُّون وأبناؤهم، والوقت محدد، دروس العصر أو العشاء. ويمكن التخفيف من عبء الدروس الخصوصية عن كاهل الأسر المصرية أيضاً عن طريق دروس المساجد بأجور رمزية كما هو الحال في العيادات الطبية الملحقة بها، أو خدمات دفن الموتى. ويمكن المساهمة في حل مشكلة البطالة عن طريق الوحدات الإنتاجية الصغرى في الأحياء الشعبية. ويمكن حل مشكلة أطفال الشوارع بتجميعهم في ساحات المساجد وتعليمهم فنون الرياضة. فشرعية العمل الحزبي تأتي من مقدار ما يقدمه من خدمات شعبية. فطالما وجدت أحزاب شرعية لا يشعر بها أحد. وطالما وجدت أحزاب لاشرعية لها أكبر الأثر على حياة الناس وهي أول من ينجدهم في الكوارث مثل الزلازل والحرائق. وما حدث أخيراً من عدم مشاركة أعضاء جماعة "الإخوان" وهم مسيطرون على معظم نوادي أعضاء هيئات التدريس بالجامعات المصرية في إضراب الأساتذة يوم 9 مارس الشهر الماضي، وعدم مشاركتهم كذلك في الإضراب الشعبي العام يوم 6 أبريل بقيادة عمال المحلة الكبرى هو خطأ في التحليل السياسي. وهو نفس الخطأ الذي وقعت فيه الجماعة بعدم الانضمام للجنة الطلبة والعمل في 1946 التي كانت تمثل بؤرة الحركة الوطنية ومحورها الأول مثل أساتذة الجامعات وعمال المحلة الكبرى اليوم. وترك الأمر لـ"الإخوان" أفراداً للمشاركة أو عدم المشاركة كقرار فردي وليس قراراً من الجماعة. تركوا اليسار والقوى الوطنية تناضل وحدها مع أنهم معارضة في مجلس الشعب من خلال خمس أعضائه وفي الشارع بقدراتهم التنظيمية على الحشد والتجميع. وقد أعطى ذلك فرصة لأعدائهم بالهجوم عليهم، وبأنهم يد مع المعارضة للاستحواذ على ثقة الشعب، ويد مع النظام لتبادل المنافع معه وعلى رأسها الشرعية في مقابل التأييد المطلق. وبذلك تعود اللعبة القديمة في الجمهورية الثانية ضرب اليسار بـ"الإخوان". وهو، إن صح، موقف انتهازي حزبي وليس موقفاً إسلامياً وطنياً. فما تكسبه جماعة "الإخوان" باعتبارهم قوة في المعارضة تخسره بنكوصها عن المشاركة في الحركة الوطنية العامة بقيادة جماعة 9 مارس من أساتذة الجامعات وعمال المحلة الكبرى، خطوة إلى الأمام وخطوتان إلى الخلف. وهي مازالت جماعة منغلقة، لا تريد الحوار مع القوى السياسية الأخرى. تعمل بمفردها. ولم تتعود بعد على العمل من خلال الائتلاف الوطني أو الجبهة الوطنية. وهو نفس موقف "التجمع" في عدم المشاركة في الإضراب الوطني العام يوم 6 أبريل بقيادة عمال المحلة الكبرى. والأعذار عديدة: ما الفائدة؟ لقد استجابت الحكومة لمطالب العمال فلمَ الإضراب؟ لمَ التخريب والتكسير والصدام مع أجهزة الأمن؟ وما العيب في التدرج في المطالب ابتداءً من رفع الأجور لمواجهة الغلاء وأعباء المعيشة؟ ويقف "التجمع" في نفس الخندق مع "الإخوان" الخصم اللدود للتقرب إلى النظام وإعلامه بأنه على استعداد للتعامل معه في مقابل بعض المقاعد في المجالس البلدية وتعيينه في المعارضة الرسمية الحكومية، المعارضة المستأنسة. وفي نفس الوقت يتعاطف الشعب مع بعض أعضاء قوى المعارضة ضد الأحكام العسكرية بحق خمسين من قياداتهم والحكم على كبير مموليهم عشر سنوات، وعلى نائبهم بسبع، وعلى آخرين بخمس أو بثلاث. تظاهروا وحدهم أمام المحكمة العسكرية وفي الجامعات. ولم يلتف اليسار الوطني حولهم كما لم يلتفوا هم حوله في إضراب أساتذة الجامعات والعصيان المدني يوم 6 أبريل. فلمَ تخسر بعض قوى المعارضة تعاطف الناس؟ والنظام حتى الآن لم يقدم لهم شيئاً في المقابل، تماماً كما تفعل السلطة الوطنية مع الكيان الصهيوني. تقدم التنازلات دون مقابل، وتخسر تعاطف الشعب الفلسطيني معها، وتخسر وحدة القوى الوطنية "فتح" و"حماس". تتصدى حركة "كفاية" وحدها دون جماعات الإسلام السياسي ومع بعض الأجنحة المنشقة عنها مثل "حزب الوسط". ويتظاهر أنصار تلك الحركات وحدهم دون "حركة كفاية" حتى لا تُبتلع فيهم. فهم الأكبر والأكثر حضوراً وقدرة وتأثيراً وجماهيرية من حركة "كفاية" النخبوية الصغيرة المحدودة. وإذا كانت أعضاء تلك الحركات يمثلون قوة المعارضة الرئيسية في مصر فلا حل أمامهم إلا الائتلاف الوطني، والاتفاق على حد أدنى من برنامج وطني موحد يعبر عن المطالب الوطنية العامة لإنقاذ الوطن وليس للوصول إلى السلطة. الحزب، في الحكم أو في المعارضة، جزء. والوطن كل. حدث ذلك في كل الثورات على أنظمة الحكم في كوبا وفيتنام. كان الحزب الشيوعي الكوبي قائد الثورة الوطنية ضد ديكتاتورية باتيستا. وكان الحزب الشيوعي الفيتنامي بقيادة هوشي منه عصب الحركة الوطنية الفيتنامية ضد الاحتلال الفرنسي أولاً ثم الاحتلال الأميركي ثانياً. وكان الحزب الشيوعي الصيني المحرك الأول لجميع الأحزاب الوطنية ضد "شان كاي تشيك" المدعم من الغرب. فإذا كانت ظروف الحركة الشيوعية في آسيا وأميركا اللاتينية قد جعلت الشيوعية عصب الحركة الوطنية فإن الإسلام في أفريقيا وآسيا هو عصب الحركة الوطنية ومهد الثورات في المشرق وفي المغرب العربي. إن الحقيقة ثقيلة على النفس. ومع ذلك فالحق أحق أن يتبع. وقديماً قال أرسطو "أحب أفلاطون، ولكن حبي للحق أعظم". إنها أزمة الحوار الوطني عند الجميع ليس فقط بين النظام والمعارضة ولكن بين أجنحة النظام نفسه وصراعها على الثروة والسلطة الموجودتين بأيديها بالفعل، وبين فصائل المعارضة أنفسها، يسارية ودينية، على السلطة التي مازالت بعيدة المنال عن كليهما. بل إن التنافس بين فصائل المعارضة على التقرب إلى النظام من أحد الفصائل ضد الآخر يقوي النظام ويعلمه أنه لا بديل له. "لا الإسلام هو الحل" ولا اليسار الوطني هو "البديل".