يعتقد بعض الخبراء في السياسة الدولية أن ما يسمى بعصر "الرجل الأطلسي" شارف على الأفول، وبأن مرحلة أخرى بصدد التبلور ترفض الهيمنة الأميركية وتتحدى سيطرتها، فيما يذهب آخرون "فريد زكريا" إلى التبشير بعالم "ما بعد أميركا". ويبدو أن هذه الآراء تستمد قوتها الاستشرافية من التحولات التي يشهدها العالم حالياً مع صعود قوى مثل الصين وإلى حد ما الهند لينتقل مركز الثقل الجيوسياسي من محور واشنطن لندن إلى أماكن مختلفة من العالم، لاسيما البحر الهادئ الذي تسبح في مياهه القوى الصاعدة على الساحة الدولية. لكن "فيليب بوبيت" المحاضر في العلاقات الدولية وأستاذ القانون في جامعة كولومبيا الأميركية، ومؤلف كتاب "الإرهاب والوفاق: إعادة التفكير في مستقبل الحرب على الإرهاب"، يرفض فكرة نهاية التحالف الأطلسي وتراجع دوره في صياغة العلاقات الدولية والتأثير في الأحداث العالمية. ورغم الجدل الذي يثيره الكتاب لما يحمله من أفكار تدافع عن النيوليبرالية وأخرى تدعو إلى استباق التصدي للإرهاب، فإن الكتاب، وحسب العديد من النقاد، يعتبر من أعمق المصنفات التي لامست السياسة الخارجية الأميركية منذ هجمات 11 سبتمبر، بل منذ نهاية الحرب الباردة. والكتاب هو في الحقيقة استكمال لما طرحه "بوبيت" في مؤَلَّف سابق يتحدث فيه عن التغيرات الكبرى التي شهدتها العلاقات الدولية منذ التوقيع عن معاهدة "ويستفاليا" عام 1648 والتي بموجبها قامت الدولة القومية المعروفة حالياً. وكانت فكرته الرئيسية التي على أساسها يبني تصوراته في كتابه الأخير هي أنه بعد الحرب الباردة أصبح مفهوم السيادة الذي أقرته المعاهدة ومنحته للدول الناشئة، متجاوزاً. فمع انتفاء الحدود وسقوطها في مناخ دولي مرتبط أكثر فأكثر بالعولمة وسياقاتها المتعددة في الاقتصاد والسياسة والثقافة اعتبر المؤلف أن نظاماً جديداً بدأ في الظهور أطلق عليه اسم "الدولة-السوق". وفي ظل هذا النظام الجديد باتت العلاقة بين الدولة والمواطن شبيهة بتلك التي تربط بين الشركة وعملائها. لكن الكتاب الحالي يختلف عن سابقه، رغم أنه يبني عليه، في تطلعه إلى المستقبل. وإذا كان المؤلف قد بشر بـ"دولة السوق" واعتبرها الصيغة الجديدة للدولة الحالية التي تتعامل مع مواطنيها بصفتهم عملاء يتعين تلبية ما يلزمهم من احتياجات، فإنه يضعها في قلب الحرب على الإرهاب، ذلك أن الطريقة الأمثل في نظر الكاتب لحماية الديمقراطيات الغربية من خطر الإرهاب وتوفير الأمن للمواطنين هي بتجاوز الأطر التقليدية للدولة القومية والتحول إلى الدولة-السوق. وبهذا المعنى لم تعد الدولة القومية ضامناً أساسياً للأمن والحماية من الأخطار الخارجية، لاسيما وأن هذه الأخطار غيرت من جلدها هي الأخرى ولم يعد منشؤها الدول، وإنما باتت صنيعة شبكات متعولمة قادرة على اختراق الدفاعات الأساسية وضرب الدول. وفي هذا الصدد تصبح الشبكات الإرهابية التي يعتبرها الكاتب الخطر الداهم المحدق بالقرن الحادي والعشرين، صورة معكوسة للدولة-السوق. فإذا كانت هذه الأخيرة قد فتحت حدودها أمام حركة التجارة والاقتصاد الحر وحولت العديد من الأدوار التقليدية التي كانت تضطلع بها الدولة التقليدية إلى متدخلين من القطاع الخاص، كما يجري حاليا في حرب العراق وخصصة الأمن... فإن الإرهاب العالمي استفاد من مكتسباتها لضربها في عقر دارها! ولعل هذه الهشاشة التي تسم الدولة القومية في مواجهة حركات إرهابية متعولمة تتوزع على بقاع العالم المختلفة، هي ما يدفع الكاتب إلى دعوة مثيرة للجدل تقوم على ضرورة إعادة صياغة الأسس الدستورية للدول الغربية لتلائم الدولة-السوق. وينطلق الكاتب في هذا السياق من خلفيته القانونية ليقترح جملة من التغييرات تمكن المسؤولين ليس من خرق القانون الذي يشدد على ضرورة احترامه، بل تتيح توسيع القانون ليشمل الممارسات ذاتها التي ارتكبتها إدارة الرئيس بوش. فالمشكلة حسب الكاتب ليست في مد يد الأجهزة الأمنية والاستخباراتية لتعقب الإرهابيين واحتجازهم في السجون الأميركية، بل تكمن في عدم مواكبة القانون للتحولات الجارية وعجزه عن حماية المواطنين. فالقانون الدولي ومعاهدة جنيف للأسرى وحظر ممارسة التعذيب... كلها جزء من الدولة القومية التي لم يخطر ببالها أنها ستنتقل من محاربة الدول والجيوش النظامية إلى التصدي لتنظيمات صغيرة تتميز بدرجة عالية من المرونة تسمح لها باختراق الدول وإحلال الدمار بمؤسساتها. لكن الكاتب لا يدعو فقط إلى ما يسميه بعقد دستوري جديد يحافظ على الحريات الخاصة في الحدود التي لا تتعارض مع الأمن العام، بل يدعو أيضاً إلى مراجعة الاستراتيجيات التي تنتهجها الولايات المتحدة في سياستها الخارجية. وفي هذا السياق لا بد، يقول الكاتب، من التخلي عن سياسات تقليدية مثل الاحتواء والردع التي لم تعد تناسب الدولة-السوق ولا تحديات الإرهاب العالمي. وبدلاً من ذلك لابد من تبني تقنيات الحرب الاستباقية التي، وإن كان المؤلف يعطيها صياغة لفظية مختلفة (Preclusionary Warfare)، إلا أنها في العمق تعني استباق الأخطار من خلال جمع المعلومات والتحرك قبل وقوعها. غير أن الكاتب وهو يدافع عن الحرب الاستباقية ويدعو إلى تغيير طبيعة الدولة وتحويلها إلى شركة كبرى ترعى مصالح زبائنها، يصر على أن أميركا لوحدها لن يكون بمقدورها مجابهة التهديدات العالمية، وأنه لا بد من تضافر جهود الدول الغربية والديمقراطية وإعادة تفعيل التحالف الأطلسي. زهير الكساب الكتاب: الإرهاب والوفاق: إعادة التفكير في مستقبل الحرب على الإرهاب المؤلف: فيليب بوبيت الناشر: منشورات "نوف" تاريخ النشر: 2008