خلال الأشهر الأولى من العام الحالي، كانت ثمة أسباب وجيهة لتبرير رضا إدارة بوش عن التطورات الإيجابية التي شهدها العراق. فبحلول صيف العام الماضي، بدأت استراتيجية زيادة عدد القوات تؤتي ثمارها الأمنية فيما يبدو، حتى في أكثر مناطق العراق جموحاً ودموية. وهذا ما رجح كفة الشهادات التي قدمها كل من الجنرال ديفيد بترايوس وزميله الدبلوماسي رايان كروكر أمام الكونجرس في شهر سبتمبر من العام الماضي، مقابل إسكات منتقدي الحرب ومعارضيها. غير أن الشهادات التي أدليا بها في الثامن والتاسع من الشهر الجاري في واشنطن أمام كل من مجلس الشيوخ واللجان التابعة لمجلس النواب، لم تكن بذات الإيجابية هذه المرة. فقبل أيام عديدة من وصولهما إلى واشنطن، تصاعدت موجة العنف الدموي بين الجيش العراقي وميليشيا جيش المهدي الذي يقوده مقتدى الصدر. وقد تركزت المعارك بصفة خاصة في مدينة البصرة بجنوبي العراق، وكذلك في مدينة الصدر بمحافظة بغداد. ومع أن الجيش العراقي شن هجومه في مدينة البصرة في السادس والعشرين من مارس المنصرم، إلا أنه لم يخطر القوات البريطانية والأميركية بذلك الهجوم إلا في الدقائق الأخيرة قبله، ما أثر سلباً على نتائج تلك العملية. غير أن الأميركيين والبريطانيين اضطروا للتدخل في نهاية الأمر، للحيلولة دون تمريغ أنف قوات الأمن العراقية في وحل تلك المعارك. وفي تطور مواز، جرى تصعيد الهجمات المباشرة على المنطقة الخضراء المحصنة نفسها. وحتى الآن بلغ عدد القتلى من الجنود الأميركيين لهذا الشهر 22 جندياً، بينما بلغ عددهم في شهر مارس المنصرم 38، ما جعل من الشهرين الماضيين، موسماً لأعلى معدلات عدد القتلى العسكريين الأميركيين منذ شهري أكتوبر ونوفمبر 2007. وفي هذا ما يذكّر بأن حرب السنوات الخمس في العراق، لا تزال أبعد من أن تكون قد اقتربت من نهايتها. ويذكر أن الرئيس بوش حمّل طهران والميليشيات الشيعية الموالية لها، المسؤولية عن تصعيد العنف في خطابه الرئاسي الأخير. ومما لا شك فيه أن لإيران يداً خفية في هذه العمليات، وإن اقتصرت هذه اليد على توفير الأسلحة والاستشارات العسكرية اللازمة للميليشيات الموالية لها. ومن ناحيته لوّح بوش في الوقت نفسه بتوجيه ضربة انتقامية موجعة، فيما لو لم تتراجع طهران عن دورها الخفي في تصعيد النزاع. وتأتي هذه الانتكاسة الأمنية، في وقت يبدي فيه كبار القادة العسكريين -بمن فيهم رئيس أركان الحرب المشتركة الأدميرال مايك مولين وبعض كبار ضباط الجيش وسلاح المارينز من أمثال الجنرال جورج دبليو كيسي- قلقاً بالغاً إزاء الاستنزاف الذي تعرضت له القوات البرية الأميركية، ما يؤثر سلباً على قدرة أميركا واستعدادها العسكري مستقبلاً. ويرتبط هذا القلق على نحو خاص بالإحصاءات العسكرية الأخيرة، التي أشارت إلى حدوث انخفاض حاد في إعادة تجنيد ضباط الصف، بينما بلغت مغادرة المجندين بين الضباط برتبة "نقيب"، معدلات مثيرة للقلق في صفوف القوات النظامية. والمعلوم أن هاتين الفئتين الأخيرتين، تشكلان نواة القيادة العسكرية المستقبلية. ومع الاستمرار المتزامن للحربين العراقية والأفغانية، يتعاظم قلق القادة العسكريين إزاء العجز المحتمل للولايات المتحدة عن التدخل الفاعل لاحقاً، في أي أزمة دولية كبيرة ربما تنشأ في هذا الجزء أو ذاك من العالم، لاسيما في شبه الجزيرة الكورية أو في القارة الأفريقية، جراء الاستنزاف الذي تعرضت له قواتها. وكانت جلسات مجلس الشيوخ واللجان التابعة لمجلس النواب التي عقدت الأسبوع الماضي، مناسبة لتزايد شكوك عدد من كبار القادة "الجمهوريين" في الحجج التي أثارها كل من الجنرال بترايوس وزميله الدبلوماسي كروكر، بشأن الكيفية التي يمكن بها التخطيط لمزيد من سحب القوات المرابطة حالياً في العراق، وكذلك في حديثهما عن تحديد التوقيت الذي يمكن فيه الإعلان عما تحقق من نصر عسكري في العمليات الجارية. أما في مجلس النواب فقد انضم الأعضاء الجمهوريون إلى صف زملائهم "الديمقراطيين" في الانتقادات الموجهة إلى تصاعد تكلفة الحرب المادية والبشرية، وكذلك إلى ممارسات الفساد بين المسؤولين العراقيين، إضافة إلى الانتقادات الموجهة إلى الدول العربية، بسبب ما نسب إليها من تمنع أو تردد في المساهمة في تكلفة بناء عراق ما بعد الحرب. وبالنتيجة فقد شرع الكونجرس في التفكير الجدي في ربط أي تشريعات لاحقة لها صلة بتمويل الحرب، باشتراطات محددة، بما فيها أن يتكفل العراق بسداد تكلفة العمليات العسكرية الأميركية الجارية في أراضيه، ما يعني دخوله عملياً في مرحلة مديونية جديدة لصالح الخزانة الأميركية. وتستند هذه الشروط الى خلفية ما وصفته واشنطن بتفشي ممارسات الفساد بين مسؤولي حكومة بغداد. ذلك أن تقريراً بث في الثالث عشر من أبريل الجاري عبر برنامج "60 Minutes" بشبكة "سي بي إس" أشار إلى أن ممارسات الفساد تكاد تطال كافة الوزارات العراقية بلا استثناء، ما يعني فداحة الخسائر المالية الناشئة عنها. وهذا ما يحسب سلباً على قيادة نوري المالكي، بما يكفي لزيادة شكوك الجمهور والمشرعين الأميركيين حول مدى جدوى الاستمرار في ضخ مزيد من الدولارات في حرب تتحول يوماً إثر الآخر إلى مواجهات لا حد لها بين الجماعات الشيعية المتناحرة فيما بينها على السلطة والثروة. ولعل الرسالة الاستراتيجية الأهم الصادرة عن واشنطن مؤخراً، تتمثل في القرار الذي اتخذه الرئيس بوش، بالسماح للجنرال ديفيد بترايوس بوقف خفض القوات المقرر تنفيذه خلال موسم صيف العام الحالي، مع مراقبة الأوضاع الميدانية عن كثب، قبل الإعلان عن أي التزامات بسحب مزيد من القوات لاحقاً. وهذا يعني أن الرئيس الأميركي المقبل، سيكون وريثاً رغم أنفه، لحرب مستمرة، يتواصل فيها توريط أكثر من 140 ألف جندي في نزاع طال أمده بما تجاوز فترة الحرب الأهلية الأميركية، بل ومشاركة الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية نفسها!