حين جاء نابليون بحملته غازياً مصر عام 1798، كان بجعبته أكثر من مشروع نصر عسكري. فإلى جانب جيشه المؤلف من 30 ألف جندي، جاء مصطحباً معه "مؤسسة ثقافية" متحركة؛ نحو ألف كتاب في شتى ضروب المعرفة والعلوم والفنون والآداب، وعدداً من الاقتصاديين والفلكيين والمعماريين، وكذلك مغنية من أوبرا باريس. وبعد ما يقارب القرنين على تلك الحملة، أقام شاه إيران "محمد رضا بهلوي"، حفل عشاء فخم امتد لأسبوع كامل، أغدق فيه على ضيوفه من كبار الشخصيات الغربية المقيمة في إيران، ووصف فيه نفسه كوريث شرعي لأمجاد الشرق وتراثه العريقين، وزعم أن تكلفة ذلك الحفل بلغت ما لا يقل عن مليوني دولار حينئذ. ومن وجهة نظر "أنتوني بادجن"، مؤلف كتاب "عالمان في سجال الحروب"، والذي نعرضه هنا، فإن نابليون وشاه إيران، إنما هما نمطان تقليديان لقائدين أحدهما غربي والآخر شرقي، ينظر كلاهما إلى نفسه باعتباره سليل حضارة إنسانية عريقة، غير أن لكليهما تناقضاته الذاتية. فمن جانبه يعبّر الشاه عن نزعة علمانية قوية وشديدة الانحياز لنمط الحداثة الغربية. ومن الجانب الآخر أعرب نابليون عن احترامه العميق للرسول (صلى الله عليه وسلم)، وإن كان ذلك من باب كسب تأييد شيوخ الأزهر له، ومغازلة العاطفة الدينية الإسلامية الغالبة في مصر. ويتسم هذا الكتاب الذي غطى سجال حروب امتدت بين العالمين الشرقي والغربي لـ2500 عام، في اثني عشر باباً، جعلت منه سفراً أقرب إلى رسم لوحة بانورامية واسعة. لشد ما هي مثيرة للجدل والخلاف. يبدأ الكتاب -كما يشير العنوان- بأزمنة الحروب الإغريقية- الفارسية، ليعرج على تنامي واتساع النفوذ الإسلامي، وسقوط القسطنطينية على يد الإمبراطورية العثمانية. وما بين طرفي هذا البرزخ الزمني الشاسع، يحشد المؤلف أحداث التاريخ حشداً، ويسوق خيطها وصولاً إلى تفسيره الخاص لهجمات 11 سبتمبر وما بعدها. وفي كل هذا السرد، فقد انقلب جفاف التاريخ وموات أحداثه إلى خضرة وحياة نابضة بفنون الإثارة والتشويق والعرض الدرامي للأحداث والمشاهد. ولعل الهدف الرئيسي الذي رمى إليه الكتاب، هو التوغل العميق فيما سبق للمؤرخ الإغريقي "هيرودتس" أن وصفه ذات مرة بعبارة "العداء الأزلي بين الشرق والغرب". لكن هناك من لاحظ على الكتاب اختزاله للشرق هذا في بلاد فارس والإمبراطورية العثمانية ومصر، إضافة إلى بلدان العالم العربي المعاصر، مستبعداً منه كلاً من الهند والصين واليابان وشبه الجزيرة الكورية، ما يعني اقتصاره للشرق في العالم الإسلامي وحده. أما من حيث المضمون الرئيسي، فيكاد الكتاب يقترب من كونه مساهمة أخرى تعزز نظرية صدام الحضارات التي نادى بها صمويل هنتنجتون من قبل. فالكاتب يرى أن الصراع الرئيسي بين الشرق والغرب، هو صراع ما بين الدين والاستنارة العقلية، بافتراض أن أحدهما يناقض الآخر. بل يزعم المؤلف أن الإسلام على وجه التحديد، ليس ملائماً لمبدأ الحضارة الغربية القائل بالفصل بين الكنيسة والدولة. ويصف عدم التلاؤم هذا، بأنه فارق لاهوتي جوهري ما بين المسيحية والإسلام. وفي حين تعترف الكنيسة بقداسة السماء وشرعية حكم البشر على الأرض، فليس في الإسلام سوى قانون الشريعة، وهو قانون أزلي غير قابل للنسخ ولا للتغيير على حد قوله. ويندرج تحت هذا الفهم، اعتقاد الكاتب أن تاريخ الإسلام كله، عبارة عن سلسلة مستمرة ومتتابعة من الأحداث، هدفها النهائي هو هزيمة "الكفار" وبسط قانون الشريعة في العالم قاطبة. وهنا يستشهد المؤلف مطولاً ببعض خطابيات أسامة بن لادن، متبوعة بوقفة مطولة على هجمات 11 سبتمبر، باعتبارها عقوبة وقّعها تنظيم "القاعدة" على الولايات المتحدة، لارتكابها جرمها الوحيد في رأيه، ألا وهو فصل الدين عن الدولة! وبالطبع فقد عاب الكثيرون على الكاتب تناقضاته المنهجية في هذا الطرح الذي حاول أن يقيم به نوعاً من التطابق الأعمى ما بين الإسلام والعنف، والاعتدال والتطرف في مسيرة الإسلام التاريخية الطويلة. بل استهجن فيه الكثيرون تضارب استنتاجاته مع مقدماته التي قال فيها إن الافتراض بوجود تضارب أو صراع أزلي بين الشرق والغرب ليس سوى أوهام في الغالب. ومما أقر به الكاتب نفسه في تلك المقدمات، تأكيده لحقيقة أن الشرق كان مهداً -في جوانب عديدة- للحضارة الغربية، بمعنى أن الكثير من القيم الغربية، قد نشأت شرقاً في الأصل. وفي مقدمة تلك القيم الديانة المسيحية نفسها. وهناك من قراء الكتاب من سعى جاهداً للبحث عن خانة يضع فيها اعتراف الكاتب بإسهام الحضارة الإسلامية في علوم الجبر والطب والفلك والرياضيات والفلسفة، مما كان لصالح نهضة الحضارة الغربية، وكذلك اعترافه بتعدد الرؤى واعتدال مناهج الحكم في أيام العصر العباسي، في ساحة صراع القيم الأزلي الذي جعل منه موضوعاً رئيسياً لكتابه! وأتاحت كل هذه التناقضات للبعض التقاط خيط ثانوي من الكتاب أولوه أهمية أكبر من الموضوع الرئيسي. ويتلخص هذا الخيط في عدم انفطام الغرب عن هوسه بجلب حضارته إلى شعوب الشرق، حتى وإن تطلب ذلك غزوها عنوة واقتداراً، مثلما فعل نابليون من قبل، ومثلما يفعل الآن جورج بوش في كل من العراق وأفغانستان... ولو أن الكاتب قد استثمر في هذا الخيط الثانوي، لكان أنفع له ولقرائه. عبدالجبار عبدالله الكتاب: عالمان في سجال الحروب المؤلف: أنتوني باجدن الناشر: راندوم هاوس للطباعة والنشر تاريخ النشر: 2008